منتدى الخليج - المجلة المصورة لرفيدة الانصارية

الأدب الساخر.. الرقص على حافة الزجاج

http://www.arabicmagazine.com/Images...1154948506.jpg

http://www.arabicmagazine.com/App_Th...ges/QuoteR.jpg ليس هناك نظرية أو تعريف أو حتى علاقة اتفق فيها كتاب الأدب الساخر تربط بينه وبين مساحة الحرية فمتى ما عرف الإنسان ألم السياط أو حرقة الهزيمة جاءت السخرية, وولدت مقاومة http://www.arabicmagazine.com/App_Th...ges/QouteL.png ليس هناك نظرية أو تعريف أو حتى علاقة اتفق فيها كتاب الأدب الساخر تربط بينه وبين مساحة الحرية فمتى ما عرف الإنسان ألم السياط أو حرقة الهزيمة جاءت السخرية, وولدت مقاومة الهزيمة بسلاح السخرية. هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين «التهريج».. الذي لا يرى هذا الحد هو ذلك الذي لا يفرق بين من يرقص طرباً ومن يقف على حافة الزجاج. فالأدب الساخر -كما يراه- أحمد الزعبي «يجب أن يكون بياناً سريّاً بين الكاتب والقارئ, بين الهمّ والضحكة, بين الوجع وصاحبه, بين القلم والممحاة كرسائل العشّاق سرية وخجولة وبينية , يكون البوح الهادئ فيها بين حمرة الجرح وحمرة الشفاه, بين الحرف والحرف, بين الغرّة والشال.. فالسخرية قهوة الكادحين... والضحك دخانهم المجاني» وكما يعرف فخري قعوار الكتابة الساخرة» بأنها تعكس صورة الواقع بجماله وقبحه، ولكن بأسلوب مختلف عن الكتابة العاديّة.

وقال عنها الشاعر شوقي بغدادي: إنها «صمام الأمان الذي يمنع طنجرة الضغط التي أحملها فوق كتفي من الانفجار! هي وسيلتي كإنسان ضعيف للتوازن في هذا العالم المليء، هي فن (الخيمياء) الذي يحول معادن الحياة اليومية الخسيسة إلى معادن نفيسة! بالسخرية يتحول الألم إلى ضوء.
من خلال هذه المحاور تقترب (المجلة العربية ) من الأدب الساخر لتتعرف على كتابه من خلال طرح عدة تساؤلات:
هل هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين «التهريج؟» .. وأين هو الحد الذي يمكن أن نقول كل ما دونه ليس أدباً ساخراً؟
هل صحيح أنه كلما زادت مساحة الحرية قلت مساحة السخرية وهل الحرية تتغذى بنقصانها فكلما نقصت الحرية زادت الحاجة إلى الأدب الساخر؟
ما هو الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فهل يضحي مهرجاً؟
الأدب الساخر يتبلور عندما تتراجع الحرية
الكاتب الساخر عبدالعزيز السويد يؤكد أن هناك حداً فاصلاً يحجز بين الكتابة الساخرة والتهريج، وقد يبدو شفافاً دقيقاً إلا أنه حد ساخن جداً بل ملتهب، يحرق أصابع من لا يحسن التعامل معه، من الأخطاء الشائعة الخلط بين فن الكتابة الساخرة والتهريج أو الإضحاك، وهو خلط يأتي من العامة غالباً، الكتابة الساخرة لها قيم وأهداف تصون حدودها وكلما كانت معلومة حق العلم لدى الكاتب، لن يقع في فخ التهريج .
وعن الحد الذي يمكن أن نقول كل مادونه ليس أدباً ساخراً يرى السويد أنه من السهل التنظير في هذا الجانب إلا أن ما يخفى ويستتر هو الإحساس، شفافية الكاتب تجاه محيطه الخاص والعام وقضايا يتعامل معها ، وهو ما يصعب بلورته في كلمات أو جمل.. إنه شعور، لذلك أشرت إلى أن الكتابة الساخرة لها قيم وأهداف.. لابد أن تكون عامة إنسانية سامية ونبيلة المقصد، ولاشك أن في هذه الجزئية اختلاف آراء لكني لا أتوقع أن يكون اختلافاً كبيراً.
ويضيف: ذكرت أنه من الصعب وضع حد ملموس؛ لأن من طبيعة البشر الاختلاف إلا أن هناك مسلمات، مثل تناول كل ما ليس للإنسان إرادة فيه، خلقته مثلاً، تصنيف اجتماعي حشره في المجتمع.. إلخ من أمور لا تخفى، هذا في جانب التناول، أما المتناول أي الكاتب الساخر ففي تقديري لا يصح أن يحول نفسه إلى مادة للضحك لأجل إرضاء القراء أو استحلاب إعجاب.
ويضيف السويد: إن الأدب الساخر يتبلور بصورة أكثر حدة عندما تتراجع الحرية، ويعتقد أن الأدب الساخر المغموس بالمرارة هو الأكثر نموا في ظل هذه الظروف، أما مسألة الحاجة له، لاشك أن هناك حاجة له وإلا لم يجد كل هذا القبول ومحاولات الكتاب الانخراط فيه، وفي ظل نقص الحريات هناك حاجات لا تعد ولا تحصى..تتمحور حول التعبير وإيصال الأصوات المخنوقة.
ويقول السويد: إذا لم يكن للكاتب الساخر هماً عاماً واضح الدلالات يلمس القارئ أثرها فيما يكتب وتصل بيسر وسهولة إلى المتلقي وتعبر عنه وعن قضايا يئن منها فهو اقرب لما وصفته بالنكتجي. ولا ننسى أن الأخير له حاجة أيضاً.
لايوجد كاتب ساخر بل أدب ساخر
ويقول القاص فهد المصبّح إن دريد لحام وبرنارد شو وشارلي شابلن هم أحسن ما يقاس عليهم في العمل الساخر, والسخرية في أصلها مذمومة وتأتي محمودة في مواضع قليلة منها الأدب الساخر مكتوباً أو مجسداً في عمل مسرحي أو سينمائي ويضاف حديثاً الكريكاتور الساخر فقد يندرج تحت الأدب الساخر الهادف وهناك حد فاصل وخيط رهيف جدا بين الأدب الساخر والتهريج أو الاستهزاء لا يمكن رؤيته بسهولة ولا يدركه إلا الذوق السليم ومن وجهة نظري أن الأدب الساخر هو القادر على إبكائك كقدرته على إضحاكك وهو ما يتوافر في الشخوص الثلاثة شابلن ودريد وشو لكن هل السخرية تكمن في الشخص أو المشخص بفتح الخاء هنا معضلة أخرى. ولا دخل للحرية بالسخرية تمدداً أو انحساراً, السخرية تنبع كردة فعل من أوضاع العالم المتردية والفقر على سدتها, وأدبنا العربي فيه الأدب الساخر جلي في أعمال الحطيئة والفرزدق والجاحظ وربما شعر الصعاليك الثائر يصلح أن يكون نظرية للأدب الساخر والظرفاء في أدبنا أو الندماء ينطلقون من هذا الجانب مغلفين نقدهم وربما إرشاداتهم بالنكتة كما عند بهلول وأبو نواس وابن المغازلي وغيرهم واعتمادا على المحور في ركيزته لا يوجد كاتب ساخر أو ممثل ساخر بل عمل ساخر أو أدب ساخر وهو ما يضحك بقدر ما يبكي –ويرى المصبح-أن الأدب الساخر يتغذى على أوضاع المجتمع المزرية ناهلا منها أحداثا تضخم أو توضع تحت الضوء لتبدو مضحكة ولكنها في نفس الوقت غاية في المرارة والبؤس والأمثلة الثلاثة كثيرا ما أضحكونا وأبكونا على حد سواء وهو أدب صعب لا يتقنه إلا ندرة من الموهوبين في هذا المجال.
محسوبية
 وجاءت إجابات محمد السحيمي تحمل بذور السخرية الموجعة, وبسؤاله إن كان هناك حد فاصل يقف حاجزاً بين الكتابة الساخرة وبين «التهريج»؟
قال وهل يعيش العالم العربي بلا حدود؟ ولكن الحد بين الكتابة الساخرة والتهريج ـ ككل الحدود العربية ـ سهل الاختراق بالمحسوبية حيناً، وبالرشوة أحياناً، وبالفهلوة دائماً!
وعن الحد الذي يمكن أن نقول كل مادونه ليس أدباً ساخراً..
يقول السحيمي حد الله ما بينك وبين المحسوبية حيناً، والرشوة أحيانا، والفهلوة دائماً!
وعن رأيه فيما يقال: كلما زادت مساحة الحرية قلت مساحة السخرية وهل  الحرية تتغذى بنقصانها فكلما نقصت الحرية زادت الحاجة إلى الأدب الساخر؟.
أجاب السحيمي: اسمح لي أنا أرى المعادلة مقلوبة تماماًـ ككل الرياضيات في العالم العربي ـ فكلما زادت مساحة الحرية ازدهرت الكتابة الفنية الساخرة! وبعبارة مباشرة فإن من لا يقبل النقد العاقل الرصين -ولد الحمايل- لن يقبل المسخرة!
وماهو  الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر؟
السحيمي: هو الفارق بين من يكتب القصيدة ومن يلقيها! وبين من يرسم اللوحة ويبسط بها في شارع الحوامل! حوامل اللوحات لاتفهموا خطأً!
تسخير الحروف
تقول القاصة نورة الأحمري: من خلال تجربتي في الكتابة الصحفية والأدبية أرى أن الكتابة لها حد رفيع جداً وقليل من يتحكم فيه ويعرف كيف يسخر الحروف في رسم الحرف الأحمر الذي يكون بلونه ساخر دون تجاوز الخطوط الحمراء، وهذا هو الحد الفاصل بين السخرية والتهريج ، فالتهريج هو دمج للحروف حتى تضحي وكأنها معجونة بالسماجة دون طائل من كتابتها.
وتضيف: إن الشيء الممجوج هو الحد الفاصل، فما معنى أن أرص مجموعة من الكلمات والهدف منها التهريج الذي قد يتجاوز إلى المساس بالذات. وتشير إلى أنه لا يوجد أدب ساخر في ظل مساحة الحرية، فكلما زادت مساحة الحرية لم يعد للسخرية مكان ، بمعنى أن الحرية المقننة أو المحجوبة هي من يولد الأدب الساخر.
وترى أن مصطلح النكتجي ولدته لنا مواقف الحياة وإطلاق النكتة في المواقف العصيبة، بمعنى أن وجود هذه الفئة التي لا توجد إلا في المجالس لتداول الضحك على مواقف دون تقديم حلول لوضع ما، عكس الكاتب الساخر الذي يسخر الحرف في خدمة قضية معينة، وبهذا الأسلوب يسهم في حل ما قد يكون مجهولاً، ومن أجمل الأشياء الساخرة اليومية ما تتناوله الصحف في فن الكاريكاتير، وهو فن ساخر ولكن ذا مغزى وهدف.
توظيف ذكي للكلمة
ويؤكد الكاتب الساخر يحيى با جنيد أن التهريج سطحية وابتذال، والسخرية عمق.. والكتابة الساخرة توظيف ذكي للكلمة، لا يأخذ تأشيرة دخول أو خروج من أحد.. إنه يذهب مباشرة إلى غايته.. لا يحتاج إلى شهود.. فـ(الحال) شاهد (شاف كل حاجة)!.
أما (الأراجوز ) فهو ( مسلّي غلابا) .. مضحكاتي يحتال على لقمة عيشه.. يضحك من نفسه في النهار، وعندما يأتي المساء يبكي على (المخدّة)!!
هو ليس بالضرورة صاحب فكر ، لكنّ صمته أبلغ وأوقع!.
في كل المناخات ازدهر الأدب الساخر.. إنه هو الذي يصنع الحربة ولا يستجديها.. إنّه يقوّم.. ويعلّم .. فلا يسعنا إلا أن نسلّم .. ونبصم.. ونختم!.
لو كان مناخ الحرية شرطاً لوجود الأدب الساخر لما كان بين أيدينا هذا الزخم الهائل من الأعمال الضخمة على مستوى العالم!.
وهو إن مال في بعض الظروف إلى التلميح فإن له وقع التشريح .!
طق قلم
ويقول محمد صادق دياب: إن الكتابة الساخرة جادة جدا وذات هدف، و«التهريج» مجرد «طق حنك» أو «طق قلم» لا يحمل هما ولا غاية. الكاتب الساخر طبع وفطرة وتلقائية، و«التهريج» تطبّع وصنعة وتكلف. الكتابة الساخرة خلق وإبداع وإبهار، و«التهريج» تقليد واتباع واجترار.
الكتابة الساخرة: فولتير، وود هاوس، عبد العزيز البشري، إبراهيم المازني، أحمد قنديل، ومحمود السعدني، أما «التهريج» فـ»على قفا مين يشيل».
وفي تحديد حد فاصل بين الكتابة الساخرة و«التهريج» إيحاء ضمني بأنهما يتقاربان أو يتشابهان، وفي ذلك ظلم كبير للكتابة الساخرة، فنحن هنا كمن يسأل عن حد الفاصل بين نهر الدانوب وبين بحيرة «المسك».
ويضيف.. يقول فولتير: «السخرية محاولة لتفادي الانتحار أو الجنون»، ويقول آخر: «الكتابة الساخرة مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي»، وفي نعيم الحرية ليس ثمة ما يدفعك إلى الجنون أو الانهيار، أو حتى الالتفاف بكلماتك المفخخة عبر «رأس الرجاء الصالح». الكتابة الساخرة -أحياناً- تهريب للمعاني في لفائف السخرية لتصل إلى غاياتها، حينما تكون هناك رسوم جمركية باهظة على الكتابة والكلام. نعم كلما زادت مساحة الحرية تختار الكلمة أقصر الطرق إلى غاياتها، ومع ذلك ستظل الكتابة الساخرة حيّة لا تموت، فالحرية الكاملة حلم يصعب مناله على هذا الكوكب.
ويفرق دياب بين الساخر والنكتجي بقوله «النكتجي» والكاتب الساخر كالفرق بين قارئ سيرة عنترة في المقهى الشعبي وبين عنترة ذاته. الكاتب الساخر هو الذي ينسج عبارته المتفردة بمغزل سحري، بينما «النكتجي» يستمد بضاعته من المتوافر في أسواق «كل شيء بريال». الكاتب الساخر طاقة إبداعية هائلة، أما «النكتجي» فمجرد «بلياتشو»، وبدلا من الذهاب إلى ضرورة أن يمتلك الكاتب الساخر «نظرية» في ظل صعوبة الاتفاق على مفهوم دقيق لمصطلح «النظرية» يمكن القول: إن الكاتب الساخر صاحب رؤى ومواقف تمده بالخلطة السحرية اللازمة للكتابة الساخرة.

الرسم على الجدار

http://www.arabicmagazine.com/Images...1101111540.jpg

بدايات فن الرسم على الجدار ترجع إلى حضارات قديمة عرفت الديكورات على الجدران باستخدام (الموزاييك) والفحم والفريسكو التي كانت تمثل شكلا من أشكال الفنون في حضارات قديمة تأتي على رأسها بالطبع الحضارة الفرعونية، ومنها لوحة جدارية تم رسمها وتنفيذها منذ خمسة آلاف عام قبل الميلاد، ولوحة الأوزات الست، وهي مرسومة بشكل جيد للغاية وفيها مراعاة لأساسيات التصوير الجداري مثل «التبسيط» وهو عنصر مهم من عناصر نجاح هذه اللوحات وهذا الفن، كما كانت المقابر الفرعونية قاطبة تمثل النماذج الأولى لفن الرسم الجداري، وقد ارتبط هذا الفن بحضارات مختلفة ومدارس فنيه متعددة وللتوضيح فقط، فقد تمكن الواقعيون من إسقاط فكرة قديمة سيطرت على فن التصوير حيث اعتبرت أن تصوير القصص الدينية والتاريخية أهم من تصوير المناظر الخلوية والطبيعة الصامتة ومهدت بذلك إلى المدرسة الواقعية والخروج من سجن المرسم إلى الخلاء، ثم تلاهم بعد ذلك رواد المدرسة التأثيرية علما بأن المدرسة التأثيرية ظهرت في عام 1874.

لكن لماذا يرتبط هذا الفن دائما بأسماء مشاهير إيطاليين؟ «الجرافيتي» أو فن الجداريات كلمة إيطالية الأصل تعني الرسم على الجدران، مما يعني أن موطن هذا النوع من الفنون هو إيطاليا، لكنه انتشر وذاع صيته في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن نظم كل من خوليو، وتاكي، وهما فنانان أمريكيان معرضهما الأول في نيويورك في سبعينيات القرن الماضي، وزاد من انتشار هذا النوع من الفنون صلته بالفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يتطلب سوى قطع من الفحم وأيادٍ تستطيع التعبير على جدران المنازل في الأحياء الفقيرة، وسرعان ما انتشرت الفكرة، ولقد بدأ بالفعل فن التصوير الجداري في الانتعاش والازدهار خلال فترة الستينيات من القرن العشرين، وذلك بعد أن زالت تأثيرات الحرب العالمية الثانية من فقر وكآبة وسحق الموهبة الفنية بسبب الأحداث السياسية التي صاحبت هذه الفترة وتأثير كل من النازية والفاشية على الفن.. وكان لظهور المدارس التكعيبية والتأثيرية وغيرها من الاتجاهات الفنية دور كبير في ظهور هذا الفن من جديد وازدهاره مرة أخرى، حين عادت الرغبة في تجميل المباني بالرسوم الجدارية التي أصبحت أحدث صيحة في هذا المجال.
إن تطور هذا الفن وتوظيفه للحصول على إيحاءات معينة كرسم شباك ليعطي إحساساً بالإضاءة في غرفة ليس بها أي فتحات، أو رسم أعمدة وأشخاص وطرز مختلفة كمفردات معمارية على الجدران ووصول التداخل بين فن التصوير الجداري والعمارة قد وصل إلى أفضل صوره خلال عصري الباروك والروكوكو. إلا أنه مع ظهور المدرسة الكلاسيكية الإيطالية الحديثة ظهر ما يعرف حتى الآن بجداريات «فريسكو» وهو فن الرسم بالجبس على حوائط وأسقف المنازل والقصور وقد انتشر هذا الفن في أوروبا ومنه إلى أمريكا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ففي هذه الفترة كان يتم توظيف اللوحات في شكل ديني، وتلا ذلك استخدامها لتسجيل الأحداث السياسية والاجتماعية المهمة.
من ناحية أخرى فإن هناك علاقة بين التصوير الجداري والخداع البصري، حيث يمثل فن التصوير الجداري محاولة ماهرة للتعبير بالخداع عن الأفق الممتد ويتيح لنا إضفاء مزيد من الأبعاد إلى أحلامنا وخيالنا.. فالرسم الجداري يعد عملا زخرفيا في بقعة معينة يخرجنا من الحيز الذي نعيش فيه.. ويصبح في أفضل صوره حين يحقق امتدادا واستمرارا للتصميم المعماري الذي يعد مادة لتسجيل الحياة اليومية، فهذا الفن يعطي إيحاءات ليست موجودة في الواقع، حيث يمكن للفنان من خلاله أن يحول الغرفة إلى لوحة مصورة.. لتصبح مكوناتها جزءاً من التصميم المرتبط بالغرفة فيتفاعل معه، وفي العصر الحديث ومع المساحات المحدودة لمنازلنا، أصبح الرسم الجداري عنصراً فاعلاً في معالجة ضيق الحيز المعماري، وقد أسهمت الحاجة الملحة إلى إضفاء الجاذبية على منازلنا ومبانينا في شيوع شعبية الخداع البصري في التصوير الجداري، وسواء كان الرسم يمثل عملا فنيا كبيرا أو عملاً زخرفياً، فإنه يبعدنا عن ضغوط الحياة اليومية، ويدخل إلى عالم من الخداع والسحر، فإذا رغبت في أن تعيش في مكان تحيط به مياه البحر، فيمكنك تحقيق هذا الحلم ببساطة شديدة باللجوء إلى فنان يرسم لك لوحة جدارية تمثل هذا المنظر في منزلك عن طريق استخدام البعد الثالث حتى يحقق الخداع لأول وهلة لدرجة أن من يراه يحتاج إلى تدقيق النظر حتى يمكن التمييز بين الحقيقة والخيال الذي يمثل شكلاً آخر من أشكال هذا الفن، لكن الأمر يبدو بهذا الشكل أقرب إلى «الفانتازيا» فماذا عن الاستخدامات العملية المفيدة في هذا الفن؟
يمكن استخدام هذا الفن في أي غرفة من غرف المنزل لمعالجة كثير من العيوب المعمارية.. ففي السقف المنخفض على سبيل المثال، وهو الشائع في بيوتنا الآن، يمكن عن طريق استخدام فن الرسم الجداري بألوانه المختلفة عمل فتحة كبيرة في السقف على شكل شباك أو قبة سماوية تأخذنا إلى زرقة السماء، وهو ما يعطي إيحاء بامتداد هذا السقف وطوله، وفي الممرات الضيقة مع صعوبة وضع مكتبة أو «نيش» وبداخله أطباق أو(فازات) يتخيلها المشاهد وكأنها جزء من الأثاث الموجود.كما يمكن رسم (إكسسوارات) للمكان على الحوائط بحيث تخفي بعض العيوب «كالكمرات» الساقطة والأسقف المختلفة الارتفاع، ويمكن في هذه الحالة أيضا رسم «بلتكان» أو ستارة مكان هذه «الكمرة» وفي قاعات الدخول أو ما يسمى بمدخل الشقة الذي لا يستقبل الكثير من ضوء النهار، ويقوم الفنان عادة في هذه الحالة بعمل ما يسمى فتح المساحات وذلك برسم منظر شباك مفتوح واستخدام إيقاع لوني يسهم في اتساع المساحة.
جداريات الشوارع.. فن الفقراء
على الشبكة العنكبوتية صور لأعمال معروضة جميعها صممت ونفذت في أنحاء متفرقة من شوارع بريطانيا من قبل فنانة تُعرف باسم سوون Swoon، بعض هذه الأعمال نُفذ ونُقل ليأخذ مكانه على الحائط.. وبعضها رُسم مباشرة باستخدام ألوان (الأكريليك) والورق الشفاف المقوى وقلم الحبر الأسود العادي. إنك لا تحتاج لزيارة قاعات عرض اللوحات لمشاهدة جدارية لأنك ستشاهدها وتتأملها أثناء ذهابك وإيابك في الشوارع والميادين العامة على واجهات المباني أو الفنادق أو الحوائط، وتطرح الجدارية دائماً تراث الشعوب وتاريخها وفكرها فهي تحمل رسالة ثقافية في المقام الأول وأخرى جمالية، كما تعد الجداريات عملاً توثيقياً يسترجع أحداث الماضي والحاضر ويتأمل المستقبل. إن أهمية الجداريات يستشهد بها في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أن مفهوم التصوير الجداري ووظيفته ارتبط في تاريخه بشدة بالعمارة التي توصف بالصرحية، ومثال ذلك عمارة الحضارات القديمة ابتداء من الفنون الفرعونية والعربية والمسيحية والقوطية وانتهاء بالفنون الإسلامية وفنون عصر النهضة الأوروبية التي لا يمكن فيها أن نفصل بين العمارة والدين والرسوم الجدارية، وقد تنوعت وسائط التعبير من حضارة لأخرى فمنها الفريسكو والفسيفساء وغيرها من الخامات التي ارتبطت بكل من الفن والعمارة.
في القرنين التاسع عشر والعشرين تطورت العمارة وتميزت بشيوع التفكير العلمي والتقنيات الحديثة وتخلصت من التركيز على خيالات الماضي، كما أصبح للدراسات الرياضية أهمية خاصة في التصميمات المعمارية والفنية؛ بحيث أصبح التصميم الداخلي للمنشأة امتدادا طبيعيا معماريا وفنيا للتصميم الخارجي، وهناك نماذج توضح العلاقة المتبادلة بين التصوير والعمارة المعاصرة كما في إسبانيا مثلاً، وذلك من خلال أهم أعمال الفنان جودي وبخاصة كنيسة ساجرادا فاميليا، وفي إنجلترا بكاتدرائية «دورهام» عمل جداري رائع للفنان مارك أنجاس من الزجاج الملون والمعشق بعنوان العشاء الأخير، وكذلك في جداريات البرج الخيالي مستخدما البرونز والحديد الموزاييك وعدد من الخامات الأخرى. أيضاً قام رينيه ماكينتوش بعمل تصميم لزجاج معشق بالرصاص في أسكتلندا، نلاحظ فيه التصميم الهندسي والعضوي والعلاقة بينهما، كذلك هناك جدارية واجهة مبنى كورتسبرج في ألمانيا للفنان دور بوش، وفي إيطاليا جداريات الفنان جينو سيفريني الذي تأثر ببيكاسو، وتوجد له جدارية تسمى الفنون الثلاثة «قصر الفنون»، وكذلك الفنان أنجلو كاينفاري حيث قام بعمل جدارية في حمام سباحة بروما، ونلاحظ العلاقة المتبادلة بين ما هو حقيقي «العمارة» ووهمي «التصوير». كما ظهرت مدرسة الباوهاوس في ألمانيا على يد جربيوس، وقد استطاع بمساعدة بول كلي وكاندنيسكي أن يوفق بين ظروف الفن التشكيلي والصناعي لخدمة الحاجات الثقافية والفنية والاجتماعية، وقد كُلف بعمل جداريات بمركز هارفارد، بينما في فرنسا لمع المهندس والفنان لوكوربوزيه في تاريخ العمارة الحديثة، وابتكر عدداً من الوسائل والطرق المعمارية، وتعد كنيسة رونشان نموذجاً من الفن الحديث المستوحى من الفنون الشعبية، وهناك جداريات كثيرة لفنانين كبار مثل الفنان جورج روو، والفنان هنري ماتيس، وفرناند ليجيه وجورج براك الذي يعد من أهم رواد المذهب التكعيبي، وكذلك رواد الربط بين الجداريات والعمارة الحديثة، وفي هولندا سطع نجم الفنانين ثيوفان دوسبورج وموندريان، وتوجد جدارية مهمة من عمل الفنان خوزيه سميت بالمكتب الرئيسي لبنك ميدنتاندس.
كما شكل أوتوواجز اتجاها جديدا لمفهوم العمارة الجديدة في النمسا، حيث نجد لوحة جدارية للفنان كاجلاجاسه اهتم فيها بشمولية العمل وتحطيم الأشكال الهندسية. أما في روسيا وبخاصة «كييف» فهناك كازيمير مالفيتش الذي أوجد حلاً بين مشكلة الشكل والفراغ منطلقا من مبادئ هندسية بسيطة. ونفذ الفنان إدوار دويزي جدارية مهمة على أرضية أحد الميادين المهمة في البرتغال التي نلاحظ فيها العلاقة بين الأرضية والمبنى والرسوم الجدارية الرابطة بينهما. كذلك من أهم الجداريات في سويسرا تلك التي أبدعها الفنان جوزيف إجار في ممر مركز المدينة الترفيهي، ونلاحظ فيها العلاقة بين الجدارية والأسطح المعمارية والوظيفية من خلال الشكل الهندسي المعماري والتكوين الجداري.أما جداريات الولايات المتحدة الأمريكية فهي للفنانين أوجست بيره، وهارت بنتون من خلال لوحة «أمريكا اليوم»، وكذلك الفنان تشارلز بجداريته التي جاءت بعنوان «الاحتفال»، وأيضا جدارية للفنان بويل مولين، وفي مبنى الأمم المتحدة في نيويورك توجد جدارية للفنان مارك شاجال منفذة بالزجاج المعشق الملون. وهناك جداريات فن الحدود الأمريكي، وهي تلك الجداريات التي تقام عند ضواحي المدن، وكذلك التصوير على أسطح جداريات المترو بأسلوب إيربرش.
أما عن التصوير الجداري الحديث في المكسيك، فإن الفن المكسيكي المعاصر له رسالة ويحمل التزاما من خلال أعمال ديوجو ريفيرا، الذي يعد الرائد الأول للأسلوب التاريخي للمدرسة المكسيكية الحديثة، وكذلك الفنان أوروسكو وبخاصة في لوحته «المدينة الحديثة»، والفنان الفاروسكيروس وهو من الفنانين الذين حققوا إبداعاً خاصاً يجمع بين العمارة الحديثة وفكرة الفن، وأيضا الفنان تامايو والذي جاءت جداريته لتجمع بين الخطوط والمساحات الدائرية العضوية والشكل المعماري في علاقته المتبادلة. وأخيرا الفنان المهندس أوجارمان صاحب جداريات المكتبة الرئيسية لجامعة المكسيك، التي جمع فيها عدداً من الرموز والأشكال في توازن وتناسق بين التصوير وعمارة المبنى، وفي البرازيل نجد الفنان بورتيناري الذي نفذ كثيرا من اللوحات الجدارية المرتبطة بالمجتمع ومشاكله الخاصة والعامة.
جداريات العزف بالألوان
أما عن فن الجداريات المعاصر في مصر والوطن العربي فنجد العلاقة المتبادلة بين التصوير الجداري والعمارة الحديثة، حيث تطورت مع بدايات النصف الثاني من القرن العشرين تقريبا، واستخدم الفنان المعماري عدداً من الخامات المستحدثة، وركز على الخطر الذي يهدد فن العمارة الحديثة؛ لأنه شاع استخدام العمارة الموحدة، فمدن مصر مليئة بالجداريات، في القاهرة توجد جدارية محكمة الجلاء للفنان عبد الهادي الجزار، وجدارية محطة السكة الحديد بالأقصر للفنانين أحمد نبيل وكمال السراج، وجدارية محطة السكة الحديد في بورسعيد للفنان حسني البناني، وبعض أعمال الجداريات للفنان السيد القماش المقتناة بمتحف الفن الحديث في القاهرة وجدارية واجهة حلواني جروبي بالقاهرة للفنان الإيطالي جاستمان، جدارية بحمام سباحة فندق شيراتون القاهرة للفنان صلاح عبد الكريم، وكذلك جداريات مترو الأنفاق بالقاهرة للفنانين زكريا الزيني، ومحمد رياض سعيد، وممدوح عمار، وجدارية مبنى الأهرام بالقاهرة للفنانين صبري منصور وأحمد نبيل، وجداريات كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية، وكلية طب الإسكندرية، للفنان عبد السلام عيد أحد نجوم الفن التشكيلي العربي، وصاحب أشهر جدارية تتزين بها عروس البحر المتوسط على سور مستشفى القوات المسلحة في مصطفى كامل التي تمتد لأكثر من 300متر وتبلغ خمسة أمتار من حيث الارتفاع. لقد تعدى إبداعه الحدود ليصل إلى ليون في فرنسا وجدة في المملكة العربية السعودية.
إن الفن‏ التشكيلي ‏عموماً‏ ‏والجداريات‏ ‏خصوصاً‏ ‏هي‏ ‏شكل‏ ‏قوي‏ ‏من‏ ‏أشكال‏ ‏الاتصال‏ ‏المجتمعي‏ ‏حيث‏ ‏يمكن‏ ‏تقبل‏ ‏هذه‏ ‏الأعمال‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏درجة‏ ‏التعليم‏ ‏أو‏ ‏الأصل‏ ‏أو‏ ‏اللغة‏، ‏فالجداريات‏ ‏فن‏ ‏له‏ ‏رسالة‏ ‏مباشرة‏ ‏وملموسة‏ ‏لعامة‏ ‏الشعب‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏مكان‏ ‏وزمان‏، والمصور‏ ‏الجداري‏ ‏يلعب‏ ‏دوراً‏ ‏مهماً‏ ‏في‏ ‏المشاركة‏ ‏لإيجاد‏ ‏الحلول‏ ‏التصميمية‏ ‏والتشكيلية‏ ‏في‏ مجالات عدة ‏مثل‏ ‏واجهات‏ ‏المباني‏ ‏العامة‏ ‏والمدارس‏ ‏والمستشفيات‏ ‏والمصانع‏ ‏والكنائس‏ وغيرها‏‏, ‏من‏ ‏هنا‏ ‏نجد‏ ‏الفنان‏ ‏عبد السلام عيد استخدم‏ ‏لجدارياته‏ ‏أدوات‏ ‏من‏ ‏قطع‏ ‏مواد مختلفة منها الموزاييك‏ ‏الكبيرة والصغيرة‏ ‏جدا‏ ‏والمتناثرة وكذلك الحبال وغيرها‏ ‏بترتيب‏ ‏وتقنية‏ ‏خاصة‏ ‏جدا‏ ‏وبجمال‏ ‏منقطع‏ ‏النظير‏، وهو يرى أن الفنان الحقيقي لابد أن يعمل من خلال رسالة هي جزء من طبيعة الفنان تدفعه نحو موقف وفكر معين، ولابد أن يكون صاحب قضية، والقضية ليست في عمل لوحة لكنها علاقة وطيدة بين الفنان والناس، والواقع والتاريخ، ويرى أبضا أنه ليس شرطاً أن يكون ضارباً في التكنولوجيا حتى يبدع شيئاً يمثله ويمثل انتماءه، لأن لغة الحوار من خلال الفن التشكيلي لها ملامحها ومغزاها ومضمونها الإنساني.
يقول عبد السلام عيد « أحياناً وأنت تتحدث عن شيء تحبه وفن تعشقه تتبادر إلى ذهنك فكرة تقترب من الجنون لكنها في النهاية فكرة.. والفكرة تحب المشاركة والحوار.كانت الفكرة التي ألحت على سؤال أرقني هو :ماذا لو أتى فنان ما، بعد عدة قرون من الزمان -إن بقي فيه قرون- وأراد أن يبدع جدارية تحكي عن حقبتنا التاريخية الحالية؟، قد يقول قائل ليس لدينا الكثير.. وأرد بدوري..من قال هذا؟.. ألا نستطيع أن نرسم أشقاء يتصارعون على حلبة من الشوك تحتضنهم ابتسامة شريرة، وحكم شيطاني بيده ميزان مختل وقرناه على شكل صاروخ وسفينة فضاء، ودموع المتصارعين تتساقط فيهوي عليها معول يهدم مبنى -لا ليس بمبنى بل هو الأقصى- أو حاسب آلي له ذراعان يمتدان من جانبيه لينقضا على عنق الشخص الجالس أمامه وأصابع يديه أسلحة حادة مرسوم عليها مشاهد إباحية ونجمة صهيونية سداسية وصلبان نازية معقوفة. وفي الخلفية تلفاز يتجمع حوله أشخاص مأخوذون يصب عليهم الجحيم صبّاً وهم لا يتحركون من أماكنهم، وعلى البعد مكتبة تبكي وتصنع ببكائها بركة بها أسماك راقدة في القاع ميتة العيون، وخزائن فارغة متناثرة، وجرائد صفراء وحمراء، ودماء... و...».
لقد كان عبد السلام عيد أحد مؤسسي شعبة التصوير الجداري عام 1982في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة في الإسكندرية حينما كانت تابعة لجامعة حلوان قبل أن تنتقل تبعيتها لجامعة الإسكندرية، وقد عاونه مجموعة من الطلاب حينذاك بين عامي 1983 و 1984 في تنفيذ تصميمه للعمل الحائطي الذي يزين الكلية من الخارج في مبنى جناكليس بإمكانيات وخامات بسيطة. إن أعمال عبدالسلام عيد الجدارية تظل صامدة ورمزاً يقاوم عوامل المناخ والظروف المحيطة، شاهداً على فكر وثقافة الفنان المنتمي إلى بيئته وتراثه.
يقول عيد:«لن أقول إن عشقي لفن الجداريات بدأ منذ نعومة أظفاري، فأنا رغم حبي للفن التشكيلي لم أكن أعرف الكثير عن مدارسه ولم أتابع حركته إلا عندما أتى واقترب مني ودخل إلى عقر داري التي أعدها جزءاً لا يتجزأ مني وهي الإسكندرية، فمدينتي الحبيبة تلك، تحتوي اليوم أو تحتويها اليوم خمس وعشرون جدارية تأخذ بالألباب وتستنطق الحجر والألوان فتبدع لغة عالمية لا تستطيعها ألف قصيدة ولا تطالها ألف رواية بها لآلئ الكلم وجوهره. إن هذه اللوحات الشهرزادية تكلمني في جيئتي وذهابي .. تحكي لي..تتحاور معي.. وكلما عدت إليها قرأت شيئاً جديداً لم أقرأه قبلاً، وربما أشعرتني أنني جزء من صياغتها، بالكاد أشعر أني خارجها لأسحب نفسي منها سحباً، لكنها تظل في قلبي بتفاصيلها الدقيقة وانعكاساتها التي لا تنتهي، فالجداريات فن خاص يحتاج إلى مبدع ذي مقدرة خاصة على احتواء أدوات الفن التشكيلي للمضي به عبر التاريخ والأدب والفولكلور والعاطفة، ولديه زاد من الصبر على الخامات المختلفة والمساحات والأجواء المحيطة وتطويعها لخدمة إبداعاته وأفكاره واختزال حقب الزمان والمسافات المكانية الشاسعة في لمحات بعينها تجعلها تشبه شهرزاد ألف ليلة، لكنها تستعلي على هذا القدر الضئيل من الزمن لتصبح حكاية من نوع جديد.. حكاية آلاف الأعوام».
جدارية كلية طب الإسكندرية على سبيل المثال تمت عام 1996 بارتفاع 12 متراً وتحكي عن عوالم الطب القديم والحديث حيث تمثل ربطاً بين تاريخ الطب ورموزه وأدواته وواقعه وماضيه..إنها تكلم  الطبيب والمؤرخ وعالم الآثار والفنان والسائح والأستاذ والطالب، والأهم من كل هؤلاء..رجل الشارع العادي الذي ليس له زاد كبير من علم أو دراسة..أيضاً هناك جدارية المستشفى العسكري في مصطفى كامل على كورنيش البحر الأبيض المتوسط، وقد ظلت فكرة تحويل جدار سور المستشفى حلماً يراوده إلى أن تقدم بها إلى محافظ الإسكندرية عام1985 ولم يلق الاهتمام في تلك السنوات، وكانت الرسومات كاملة بشكل أكثر تلخيصاً إذا شاهدنا العمل المقام الآن ولكن مع بداية التنفيذ فيما بعد أضاف الفنان رؤى ومساحات جديدة، وعندما تقدم بالفكرة عام 1997 للوزير عبد السلام المحجوب حين كان محافظاً للإسكندرية قبل توليه وزارة الإدارة المحلية، رحب بها وطلب على الفور تقديم الأفكار الخاصة بهذا العمل وتم تنفيذه، ومن أعماله أيضاً جدارية كلية الفنون الجميلة في جامعة الإسكندرية (مبنى مظلوم) عام 1997 التي تعد أول لوحة في العالم تُنفذ على زجاج الأسطح الحاملة لها من الزجاج المسلح بالسلك ضد الصدمات، ووحدات هذه الجدارية مركبة على الوحدات الزجاجية بالسيليكون فلا توجد أي مواد ربط تقليدية كالزلط والأسمنت. وقد تم حساب تأثير حركة الترام الذي يمر أمامها على بعد أمتار قليلة كما وُضعت الألواح الزجاجية على وسائد من الرصاص كي لا تحدث شروخاً، فالأسلاك الموجودة داخل الزجاج تمتص الصدمات حتى وإن كُسر لوح الزجاج فيحتفظ بمكانه لأن طبقات السيليكون والموزاييك قوية ومرنة. كذلك هناك جدارية واجهة فندق سان جيوفاني التي تم تنفيذها عام 1990.
إنها جداريات تاريخية فلكلورية تعبر بك العصور المختلفة للإسكندرية وتدمج بها التاريخ المصري والعربي والإسلامي ككل مع مقاطع من الفن الشعبي الخاص والعام وكأنها تربط بين خصوصية الإسكندرية وعروبتها، وتؤكد على أنها منذ إنشائها مصرية الهوية وإن كان من بناها مقدونياً، حتى الأطفال لم تنسهم جداريات الإسكندرية وكلمتهم عبر شخصياتهم المحببة إلى قلوبهم مثل (ميكي وبطوط وبندق) فوق سور مستشفى الأطفال الجامعي في الشاطبي،  وحكت لهم عن فنار الإسكندرية وقلعة قايتباي بألوان زاهية تجتذبهم وتجعلهم ينعمون النظر في إشارات تلك الشخصيات وإيماءاتهم إلى التاريخ فيتعلمون من بين المتعة، ويفهمون من وحي الإثارة واستثارة خيالهم الصغير الفنان معنى الألوان والأضواء.
شارك عبد السلام عيد في إطار الاحتفال بإحياء ذكرى الفنان المعماري الفرنسي توني جرانيه عام 1993، حيث اختارته منظمة اليونسكو ليمثل مصر إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا والهند وساحل العاج، ليشارك ببصمة مصرية على واجهة إحدى العمائر التي صممها المعماري توني جرانيه في مدينة ليون بفرنسا، وقد عبًر عمله عن فكرة المدينة الفاضلة التي تقوم على احترام الثقافات المختلفة للإنسان، حيث موضوع المدينة الفاضلة كان محط اهتمام أعمال عبدالسلام عيد فقد شارك في بينالي فينيسيا 1984 بعمل فني هو «المدينة» وكذلك شارك بعمل «المدينة الحائرة» عام 2002 في بينالي ساو باولو، وفي عام 1993 قام عبد السلام عيد بعمل جدارية على حائط ضخم في قاعة المؤتمرات في جامعة الملك عبد العزيز في مدينة جدة، وقد تقدم لها فنانون من السعودية ولبنان وسوريا وإيطاليا، واختيرت فكرته التي قام بتنفيذها، وخلال خمس سنوات قام بتصميم مجموعة من الأعمال الميدانية أولها مجسم المدينة (25 متراً) وعبًر فيه عن النهضة العمرانية في جدة، واستخدم فيه شكل القوقعة الضخمة وكتاباً مفتوحاً عليه مركب تحمل الأقلام وأدوات المهندس. كما قام كذلك بعمل عدة مجسمات في مدينة جدة منها آفاق القرن 21 في حديقة الأندلس.
نخلص من هذا كله إلى بعض النتائج الخاصة والتي تؤكد على أن التصوير الجداري ليس تجميلاً للمكان فحسب، بل عليه أن يتعامل مع الوظيفة الفعلية، لذا ندعو من فوق منبر المجلة العربية بإلزام الهيئات والشركات الكبرى وملاك العمارات الفخمة بأن يخصصوا مساحات في الواجهات الداخلية وكذلك مداخل العمارات لتزيينها بجداريات فنية مبهرة.