![]() |
المظلومون في تاريخنا !!
المظلومون في تاريخنا د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي http://www.almujtamaa-mag.com/Images.../P66_01_01.jpg د.عبدالرحمن على الحجي الحلقة الأولى تاريخنا الإسلامي وحضارته.. ناله الكثير من الظلم بأنواعه، افتراءً، مبرمجاً مقصوداً، قديماً وحديثاً. لكن أفظع الظلم، اتهامه ورميه بما هو منه بريء، براءة الذئب من دم يوسف، عليه السلام، وما من شكٍ أن وراء ذلك أسباباً تدميرية، من جهاتٍ وفئات متعددة، جَمَعَها العداء له. وقد ساءها انتصارُه وانتشاره الواسع بين الشعوب التي أقبلت عليه، معتنقة له عقيدة وشريعة مستعدة للتضحية من أجله بأغلى ما لديها، عاملة به وداعية له بسلوكها، حاملة رايته بكل ما تستطيع، وبكل مقتضيً لديها، ومحصلةُ ذلك هي الإساءة إلى الإسلام نفسه، لكن أليس الجهل بهذا التاريخ هو وجه آخر من وجوه الظلم كذلك؟ وعلاج الأمر كله أو مفتاحه على الأقل معرفة هذا التاريخ والتوسع في الاهتمام به واستيعاب عِبَرِه. ولهذا الظلم المشهود درجاتٌ متفاوتة، بعضها دون أو فوق بعض. لكن من الواضح أن سهم تاريخنا أكبر من غيره، من فروع الدراسات الإسلامية. لقد كان من وسائلهم المتمرسة أن وجهوا ظلمهم أول ما وجهوه نحو أنصع الصفحات وصانعيها لتاريخنا، وبالتالي لمبانيها ومعانيها. كأنهم يقولون: إذا كان هذا هو حال صفحات المفاخر وأهلها، بهذا الشكل المتردي في تاريخنا وحضارتنا، فماذا تقولون إذن في غيرها؟ خذ مثلاً على ظلمهم لهذه الصفحات المتألقة والقائمين بها وعليها، من مثل: الفتوحات الإسلامية، بيعة السقيفة، حروب الرِّدَة. لقد نالوا بذلك عموم المسلمين وخصوصهم: خلفاءهم وأُمراءهم وقادتهم وعلماءهم وفقهاءهم وقضاتهم وأهل الرأي فيهم، غنيهم وفقيرهم، خلال مراحل التاريخ. لقد جرت تلك المظالم في ذات الطريق، تفنناً وافتناناً وتمادياً، لا سيما بعد فشل الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي، خلال قرنين من الزمان: حروب السيف والتنكيل والتقتيل، ومثلها وأشد منها وأعنف وأطول ..أُختها: الحروب الصليبية في المغرب الإسلامي.. الأندلس وما أمامها وما خلفها، وانتهاءً بمحاكم التفتيش، التي غدا اليوم بعض الدارسين الأوربيين يستهجنونها، رغم محاولة جمهرة منهم أحياناً تأويلها أو التخفيف من بشاعتها. كان من ذلك التقرير (نحو سبعمائة صفحة، كتبت عنه صحف أوروبية) الذي أصدرته البابوية السابقة، مدعية أن محاكم التفتيش تلك لم تكن بتلك القسوة! ومعلوم للجميع ما ارتكبته البابوية الوريثة. عند الفشل في النيل، من وراء ذلك الظلم التاريخي، أنشؤوا لهذا الظلم التاريخي معاهدَ، هي له مصانع، ابتداءً: من طريق إقامة الاستشراق ورعاية تياره في العالم الإسلامي نفسه، وأخذاً ببثه في أوساط هذا العالم، وانتهاءً بتكوين من يقوم مقامَهم، لتكون دُورنا أو حصوننا مهددة من داخلها، على قاعدة: "إن خيرَ من يقطع الشجرة أحدُ أبنائها". فكان هؤلاء المصنوعون أشدَّ علينا وأكثر جُرْأَة وأمضى تهمة من أولئك، ويتضح ذلك جلياً في كل مكان من خلال بعض الأتباع الذين تصدروا المواقع، متبنين ذات الدوافع، حتى وإن وقفوا خلف البراقع، بادعاء العلمية والأكاديمية التي لايعرفونها أبداً، فأسسوا فينا المواجع.. رآهم كل من عمل معهم وتداول مواقعهم وعانى من التواءاتهم. والحمد الكثير لله تعالى، فقد تغير الحال اليوم بما توافر من القائمين على رعاية هذا التاريخ وحضارته، ممن فهموه وتعمقوا فيه وأدركوا مضامينه الحقة ومرابعه المزدهرة وحقائقه البريئة، من غير إهمال لكل أحواله الأُخرى، ولكن باستحقاقاتها، نتيجة بحوث مضنية متأنية، يُدرك ذلك جلياً كلُّ من خاض مجالي (مجالات) التاريخ الإسلامي وحضارته الرفيعة، يتوازى ذلك مع السير، اطراداً مع وضوح الرؤية في هذه الأُمور ويزداد تبيناً وجلاءً وسموا، بمقدار المضي في هذه السبيل، ناهلاً من ينابيعه. إن من يُحَدّق جيداً متأنياً موضوعياً، في تضاعيف هذا التاريخ ويرى أروقته الممتدة الظليلة الدافئة، سوف يُدْهَش حتماً، وقد يفزع مستفسراً: كيف مضت وسرت واستقرت هذه المظالم، مغطية عموم التاريخ الإسلامي، دون تميز بين الحق والباطل والصدق والكذب والحقيقة والافتراء، ما وقع فعلاً وما لم يقع، فسارعت مخترقة هذه المباني الشوامخ؟ لعله يصل بذلك إلى ثلاث نتائج مختارة بارزة: 1 - أًيُّ مجهود بُذِلَ لبث هذه المظالم، وأيّ قوم هؤلاء الذين وقفوا وراءها أو لها، وأيّ طول من الزمان صبروا عليه، ليشيعوها ويقبلها حتى أهل هذا التاريخ، ما لو بذله أَهلُه لرعايته لوقف سداً منيعاً دون تحقيق ما حققوه؟ 2 - أَيُّ إهمال جرى من أهله مقابل ذلك، أو جهل بحقيقته وبتلك المظالم، حفوا به أنفسهم فحال دون إدراك حقائق الأُمور، ليهرعوا لبيانه وخدمته وتقديمه، أو على الأقل للإسراع في تجلية الواقع، ليرفدوه ويستدركوا ما عليهم إدراكه؟ 3 - والآن: ما الجهد اللازم اليوم من أهله، لدفع هذا الظلم وكشفه عن المظلومين في هذا التاريخ. ثم من بعد، لتقديمه بحقائقه وبيان جوانبه المضيئة ولآلئه النادرة الكريمة، مع عدم إهمال المنحدرات التي طرأت على الأُمة، خلال تاريخها، لتنفع بذلك، دروساً وعِبراً ومَدداً؟ وهو ما سأشارك به إن شاء الله تعالى في أكثر من جانب منه، ببيان الحق ومتابعة الواقع التاريخي وبحث النظر في أحداثه، لتتبين الأمور بأدلتها، ويأخذ الحق مكانه، ويرتفع الظلم عن المظلومين، في أعداد قادمة، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. |
المظلومون في تاريخنا (2) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الثانية ما أكثر الظلم الذي تَحَمّله تاريخُنا الإسلامي وحضارتُه من أعدائه ومن بعض مَنْ انتسبوا إليه كأبنائه. وعليه فما أكثرالمظلومين فيه كذلك، والمقصود أولاً وآخراً الإسلام، والإسلام وحده وليس غيره، يستوي فيه الماضي والحاضر. وليس المقصود بالظلم هنا ما وقع لأهله أفراداً وجماعاتٍ وأحداثاً من أذيً محققٍ فعلاًً واضطهاد لهم في حياتهم الشخصية، من قِبَل أي أحد، عدواً كان أو صديقاً أو من الأبناء المدعين، إنما المقصود أُولئك الذين نالهم الظلم في تشويه سيرتهم وأعمالهم وحياتهم، وربما إلى اليوم. لقد نال هذا الظلمُ والافتراء والاعتداء كُلَّ ركن وكل أحد وكل صنف من الناس في العصور والبلدان، رجالاً ونساءً، ويمكن الاستنتاج أن كل من خدم الإسلام وخدمه أكثر كان سهمه من الظلم أكثر. فالمظلومون من الخلفاء كثيرون، وربما أولهم ثلاثة: الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (35ه = 656م)، والخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد(193ه = 809م)، والخليفة العثماني الرابع والثلاثون عبدالحميد الثاني (1326ه = 1909م). بل بلغ الظلم حداً غريباً، حيث ذُكر أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح، تآمروا على أن يتولوا الحكم الواحد بعد الآخَر!! بل إن الخليفة عمر بن عبدالعزيز نفسه لم يسلم من الظلم. كان هذا في المشرق الإسلامي، أما في مغربه (الأندلس، ما قبله وما بعده) فلدينا العديد من الأمراء والخلفاء الذين ظلموا، من أمثال: أمير المرابطين يوسف بن تاشُفين (500ه)، والخليفة الأندلسي عبدالرحمن الناصر (350ه)، وابنه الحَكَم المستنصر (366ه). ومن الولاة والأُمراء والقادة: خالد بن الوليد (21ه = 642م)، وعمرو ابن العاص (43ه = 664م)، وأبو موسى الأشعري عبدالله بن قيس(44ه=665م)، وموسى بن نُصَيْر(97ه = 715م)، وابنه عبدالعزيز (97ه=716م) والي الأندلس بعد أبيه موسى وأحد الفاتحين لها، وطارق بن زياد (بعد 100ه = بعد 718م). ومن العلماء والفقهاء والقضاة: ابن رشد الحفيد محمد بن أحمد (595ه = 1198م). وقد اتُهِموا بالجمود في نِتاجهم لا سيما أدبهم وبالذات شعرهم، حتى لقد نالوا ظلماً من الأئمة المؤرخين الأعلام الثِّقات، أمثال: محمد بن إسحاق (151ه = 768م) صاحب السيرة النبوية الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام، التي هذبها عبدالملك بن هشام (213ه = 828م) وعُرِفَت به، والمؤرخ الفقيه الإمام محمد بن جرير الطَّبَري (310ه = 923م)، لكنهم بالمقابل جعلوا من مصطفى كمال أتاتورك (1356ه = 1937م) المصنوع بطلاً حقيقياً، وكان قد ألغى الخلافة العثمانية سنة 1924م، مثلما جعلوا مكتشفين جغرافيين.. أبطالاً.. مثل: ماجِلاّن البرتغالي (1521م) الذي قام بحملة عسكرية ضد المسلمين في الفلبين، كما جعلوا مثله كذلك فاسكو دي جاما البرتغالي (1524م)، وهو الذي جهز حملة مماثلة إلى الهند. وإذا كان هذا بالنسبة للأعلام، فالأمر لايختلف بالنسبة للأحداث والفئات والمواصفات، وطبعاً من ورائها الأفراد والجماعات والمجتمعات، أي قّلَّ من بقي من المسلمين إلا وقد حمل من الظلم ما ينوء به حملاً حتى يقع مقتولاً، يُقَوّلونه تلفيقاً ويحركونه افتئاتاً ويُفَسّدون نيته تجريماً، كما يجرحونه، بعد أن يجرمونه، حتى يدموه. فأنكروا على المجتمع المسلم أن تكون فيه العفة في كل الأمور، لا سيما في العَلاقات بين المرأة والرجل، واعتبروا ذلك ظاهرة يونانية النشأة ونُقلت منهم!! والجهاد ومعاركه ونشاطه افترسوه وذروه في الهواء معتبرينه تجاوزاً، وأسوأ من ذلك قالوه، كما زعموا حول بلاط الشهداء (114ه = 732م). كما ساقوا الظلم إلى الأقوام: العرب والعجم والبربر، ووجهوه إلى الأعمال، منها بناء المساجد، منتزعين أرضها من الآخرين، ليقيموها في أماكن عبادتهم نفسها، كما أنهم لم يحسنوا معاملة غير المسلمين، وما حفظوا عهود الآخرين، كل ذلك دفعوه إلى تاريخنا. ونسوا أو تناسوا ما أنزله الآخرون بالمسلمين، لا سيما ما جرى على يد محاكم التفتيش. وللفئات كِفْلٌ من ذلك ثقيل، فقالوا : إن الإسلام خلال تاريخه ظلم المرأة، وفتح أبواب الرِّق لها ولأخيها الرجل، التي جعلها دونه درجة، وأن التاريخ الحضاري لا يحمل إبداعاً، وكل الذي قدمه المسلمون هو ترجمات من اللغات الأُخرى، لا سيما من اليونانية، بل إن الإسلام هو ضد الحضارة ويؤخرها. ومن وجوه الظلم الشديد والافتئات البليد والجور البعيد عن كل تأويل ووضوح.. التجاوز الذي يعلن عن نفسه ويكشف عُواره أو هو مكشوف، لا يكتفي أن يأخذ بصاحبه إلى الغفلة بل إلى التفاهة والتقزز الكريه، من أن الإسلام انتشر بالسيف وأن الفتوحات كانت من أجل الغنائم، بل إنها كانت علاجاً لمشكلة الفقر بتقليل عدد النفوس! بل إن هذا الظلم لتاريخنا وصل إلى السيرة النبوية الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام. وهناك مظالم أخرى غيرها تنوعت أشكالها. كل ذلك يدعو إلى الاهتمام بتاريخنا الإسلامي وحضارته، ورد ذلك إلى موقعه، وإعادة قوته ووضعه في المكان اللائق به في ذاكرة الأُمة وحضوره في فهمها وفعاليته في واقعها، ما يدعو إلى العناية به وكتابته، ليس فقط لإزالة الشبهات ورد الزيف وإزالة الظلم عنه، بل لبيان حقيقته وإظهار تميزه وتبني جمالاته للانتفاع بخيراته. ويقتضي بجانب الجهود الفردية إنشاء مؤسسات متخصصة لإنجاز المهمة بما يناسبها، بل وربما إنشاء كليات لهذا الغرض المهم. |
موسى بن نُصَيْر ..الإداري الناجح والقائد الفاتح الحلقة الثالثة حان وقت الحديث الآن عن أحد المظلومين في تاريخنا الإسلامي وحضارته، لكشف زيف ما رُمِيَ به ظلماً وزوراً: ولد موسى بن نصير سنة 19هـ، فهو تابعي. تولى وظائف إدارية وعسكرية عديدة أثبت فيها جدارة عالية، وغدا خبيراً بأفانينها ومعرفة واسعة بالناس والأقوام والحياة. يدل على ذلك محاورة جرت بينه وبين الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك (99هـ). عُين والياً على الشمال الإفريقي سنة 86هـ. ولما استقرالإسلام هناك، بدأ يفكر في تنفيذ رغبة قديمة، مَدُّ رواق الإسلام وحمل رايته لما بعده، إلى ما وراء البحر: نحو أوروبا، شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال). وفعلاً بدأ الإجراءات التي لابد أن تبدأ بأخذ موافقة الخليفة الوليد بن عبدالملك (96هـ)، لكن الوليد لم يوافق، خوفاً على المسلمين من البحر. فرد عليه موسى أنه ليس ببحر زَخّار، فأجاب الخليفة: وإنْ.. جربها بالسرايا. عندها جهز موسى حملة استطلاعية من 400 راجل ومائة فارس، أبحروا في رمضان سنة 91هـ، من مدينة سبتة، بقيادة طَريف بن مالك (بربري)، لترسو سفنُهم عند رأس أرض في الجهة الإسبانية، على فم المضيق من جهة المحيط الأطلسي، عُرِفَ وحتى اليوم باسم قائد الحملة التي اختبرت المكان وعادت من حيث أتت بالأخبار المشجعة. فما كان من موسى إلا أن بدأ يجهز لحملة الفتح. وما إن أتم موسى تجهيز الجيش واختار طارق بن زياد (بربري) قائداً لها، حتى ركب سفنه من سبتة، في رجب سنة 92هـ لترسو على الجبل الذي حمل والمضيق اسمَ القائد، حتى اليوم، وبجميع اللغات. وتَجَمّع هناك لطارق جندُه السبعة آلاف. لكن القُوط حكام شبه الجزيرة جمعوا جيشاً كثيفاً، لدى سماعهم بهذه الأنباء. وهم أمة حرب، ما عَرَفَت الهزيمة قبل ذلك طوال قرنين، خلاف ما يُزْعَم من ضعفهم، كي يحرموا المسلمين من مزية النصر العظيم الذي حققوه، رغم التفاوت في كل شيء لصالح القوط. عندها كتب طارق إلى موسى يطلب منه مدداً، وكان من خمسة آلاف، أُرسلت إليه بقيادة طريف كذلك. اكتملت عِدّةُ الجيش الإسلامي اثني عشر ألفاً باتفاق، كان كلهم من البربر، غير بضع عشرات، كانوا من العرب. ويعلل الظلمة المُزَوّرون ذلك: أن العرب دفعوا بهم إلى هذه الأرض الجديدة، فإن كان قتلاً فهم سالمون، وإن كان غُنماً فهم يَعْبُرون! والحق أن البربر هم الذين ترجوا موسى في ذلك، قائلين: يا أمير، أنتم العرب أسلمتم قبلنا وجاهدتم، ونحن تأخرنا. فاسمح لنا نتولى هذا الجهاد، تعويضاً لما فات. فابتسم موسى فرحاً بهذا الصدق والإخلاص، مستجيباً لهم، وكان. وهكذا فإن هذا الفتح العظيم، جلله الظلم بهذه الأكاذيب؛ لِيُذْهِب روعته وجماله وقوته التي لا تخلو من نسمات المعجزة صنعها أولئك المجاهدون بهذا الدين. ولا بد من معرفة أن هذه المظالم غطت الكثير مما حققه المسلمون من نصر فريد، بجهادهم وقياداتهم، وعلى رأسهم الأمير موسى في هذا الفتح المشهود. وليس هنا موضع التفصيل، وإنما تُساق نماذج لمعرفة أي ظلم فظيع أُنزل. كان اللقاء بين الجيشين الإسلامي والقوطي المتفوق في العُدة والعدد وفي كل شيء، والذي بلغ تَعْدادُه نحو مائة ألفٍ أويزيدون، بقيادة ملكهم لُذْرِيق، وهو عسكري معروف، في ميدان واسع في منطقة شَذُونَة جنوباً. وبدأت المعركة الحاسمة يوم الأحد 27 رمضان سنة 92هـ (19-7-711م) ، واستمرت ثمانية أيام أو تزيد؛ دليلاً على شدة القتال، وليس كما يقال عن ضعف القوط، فأَنْزل اللهُ نصره على المسلمين، واسْتُشْهِِد منهم ثلاثة آلاف. وقتل من القوط كثير. وبعد سنة عَبَرَ موسى، في رمضان سنة 93هـ بثمانية عشر ألفاً، نجدةً. واستمر الفتح حتى بلغ شَمالي البلاد، بقيادة رَئيسَيْه موسى وطارق. وتعليل سبب عبور موسى إلى الأندلس، تَجِدْه في قاموس الظلم يقول: حسداً لطارق الذي ذهب بشرف الفتح. بينما حقيقته: أنه كان لمعاونة طارق الذي توزع جيشُه، وخوفاً أن يُحاط به. فتح موسى المناطق التي لم تُفْتح وراء طارق. لذلك لم يلتقِ موسى به إلا بعد سنة من عبور موسى نفسه؛ أي في أوائل 94هـ. وتقدم القائدان حتى أتما أو كادا فتح هذه الجزيرة القارَّة (مساحتها قُرابة 600 ألف كم2). عندها استدعى الخليفةُ الوليدُ موسى وطارقاً إلى دمشق؛ مشدداً في ذلك ومؤكداً، فلم يكن بد من الاستجابة، طاعة وخضوعاً وتنفيذاً لأمر الخليفة، في هذا وغيره، وهو شأنهم وديدنهم على الدوام. وهنا.. لماذا كان هذا الاستدعاء العاجل؟ أجاب الظلمة : أنه وصل إلى علم الخليفة أن موسى يريد الاستقلال بالأندلس عن الخلافة ! حاشا وحاشا لله. أية فِرْيَة رعناء! أما الحقيقة الواضحة المؤكدة الجلية فهي: أن موسى كان يريد استمرار الفتح هناك، حتى يَعْبُر جبالَ البُرْت، نحو فرنسا مستمراً في ذلك.. إلى ما يشاء الله، فاستدعاه الخليفة، ليوقف هذا المشروع، خوفاً على المسلمين، لِمَا يَعْرِف من همة موسى وقوة حجته. أرأيت بنفسك الأمر إذن: كيف تَراهُ فتقرؤه؟ |
طارق بن زياد..القائد المُبدع والرائد المُسْرع د. عبدالرحمن علي الحجي الحلقة الرابعة كثيراً ما أتخيلُ صوراً لأعلامنا،لا سيما الذين تمتد معهم الصحبة وطارق بن زياد من أوائلهم مضى على ذلك سنوات، ولو حاولتُ رسمَها لوحة، لتمت، ولكني أُقَدّمها بكلماتٍ: تصورتُه رجلاً مديداً، قاد جيشه عبر المضيق بملابسه البيضاء وشَعْرِه الكستنائي المتدلي تحت العمامة، ينظر بعينيه الزرقاوين الثاقبتين إلى الطرف الآخَر من المضيق، رافعاً يديه إلى السماء، داعياً الله سبحانه وتعالى بالنصر المبين لدعوته وإعلاء راياتها. طارق بن زياد: بربري من قبيلة نَفْزَة، شارك مبكراً في أعمال الفتح في المغرب الأقصى، يمتلك مهارة ًونبلاً وإخلاصاً للإسلام، اختاره الأمير موسى بن نُصَيْر قائداً للحامية العسكرية في مدينة طنجة، وكانت سِنُّه نحو 28 عاماً، ثم اختاره قائداً لحملة الفتح الأندلسي، لِمَا أسْلَفه من سابقات الجهاد. أبحر طارق من مدينة سبتة Ceuta،بالآلاف السبعة، في آخر أفواجه،5 رجب سنة 92هـ(711م)، عََبْرَ المَضِيق الذي حمل اسمَه (جبل طارق Gibraltar) وإلى ما يشاء الله بجميع اللغات مكافأة دنيوية وما عند الله أبقى. ولما كان في مياه المضيق أخذته غفوة، رأى فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فبشره بالنصر وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد.. بَشَّر أصحابه، فازدادوا ثقةً ومُضِيَّاً وعزيمةً. ولما وصل الجبل فوجئ بجند القوط عند ساحله، فما عساه يفعل؟ حالاً أضمر فكرة مُبْدِعة: أصدر أمره بالعودة باتجاه سبتة، حتى خيم الظلام، أوقفوا مراكبهم للعودة إلى الجبل والرسو خلفه.. لكن كيف يرتقونه، والقطع عالٍ منحدر عمودياً؟ تم ذلك بما لديهم من حبال ومجاديف، يَسْحَب أحدُهم الآخر!! ولولا أن طارقاً يعرف نوعية جنده، لاستحال تنفيذ الخُطة، فهل هؤلاء بحاجة لحرق السفن ليقاتلوا؟ عندها نزل طارق ليلتحق بالذين سبقوه، إعداداً للمرحلة القادمة. وهؤلاء الذين سبقوه، جرت لهم حروب مع القوط، بقيادة تُدْمِير أكبر قادتهم وأشهرهم كلما نزل فوج جديد، ينهزم حتى كتب يستنجد ملكهم لُذْرِيق Rodrigo، قائلاً: أيها الملك، أدركني فقد حَلَّ بأرضنا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء!! "نعم، إنهم من أهل الأرض بمنهج السماء".. ثم جاء للمسلمين خمسة آلاف مدداً، وتجمع جيش القوط نحو مائة ألف أو أكثر. زِدْ لهذا التفاوت، الروحَ المعنوية العالية للقوط، جاءوا بعربات تحمل الحبال، لربط أسرى المسلمين، وهذا يدل على قوتهم، وليس على ضعفهم كما يُزْعَم، وإلاّ فكيف استمرت المعركة ثمانية أيام أو تسعة؟ كان اللقاء في منطقة شَذُونَة جنوباً يوم الأحد 28 رمضان سنة 92هـ (19-7-711م)، حتى يوم الأحد التالي، قاتل الفريقان خلالها قتالاً شديداً وصبرا صبراً عظيماً، وأنزل الله تعالى نصره المبين على المسلمين، واسْتُشْهِد منهم ثلاثة آلاف، وقتل من القوط كثير. فهل يصدق أحد أن أهل هذا التدفق الإيماني، الذي حملهم على تحقيق أسمى الأهداف: نَشْرُ دين الله تعالى، بحاجة إلى حرق طارق للسفن ليستميتوا، أو يخاطبهم مُرَغّباً بإغرائهم بالبنات الحِسان التي تمتلئ بها الجزيرة؟! ألا يعني هذا الظلم الكثيف أن طارقاً وجنده جاءوا إلى هذه الجزيرة بدوافع دنيوية فحسب؟ وكيف يمكن أن يقوم طارق بكل ذلك لحساب نفسه لا غير! لكن طارقاً ينطلق بأكثرالجند المتبقي إلى مدينة إسْتِجّةEcija , ليَبْعثَ منها سرايا لفتح مدن جانبية، متجهاً إلى العاصمة طُلَيْطلة Toledo، كيلا يترك للقوط مجالاً للتجمع، بل لحقهم إلى ما بعدها، وعاد إليها ينتظر الأمير موسى. فهل يمكن أن يكافئه موسى ضرباً بالسوط أمام جنده البربر، أو يهم بقتله؟ فهل هذه سياسة تتحقق بها مثل هذه الإنجازات الفريدة؟!! لكن من الظلم المكثف: ادعاؤهم قيام طارق بتلك التضحيات ليحقق زَواجَه من الزهراء ابنة موسى حسب اتفاقهما، عِلْماً بأنه ما كان لموسى مثل هذه البنت المزعومة! ثم انظر الظلم الحقود الأسود، فَرّخ أن طارقاً سرق ذهباً.. أليس شَرُّ البلية ما يضحك، ولكنه ضحك كالبكا،أو أشد أنواعه! حين أَتَمّ القائدان المجاهدان فتح الشمال، قال طارق لموسى: "أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي"، وقد بَرَّ بقسمه ووفى بوعده، وخاض البحر، منتهى تلك الوجهة عند مدينة خيخون Gijon، على خليج بسكاي.Bay of Biscay عندها عاد القائدان الكريمان إلى دمشق، أواخر سنة 96هـ، حسب أمر الخليفة الوليد، ثم لم نكد نسمع عن طارق بعد ذلك شيئاً، وهنا تتوقف أخباره، وتنتهي هذه الحلقة. |
عبدالعزيز بن موسى بن نُصَيْر .. رائب الصدع وفاتح شرق الأندلس وغربه بقلم : د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الخامسة عبدالعزيز بن موسى بن نصير: ظُلِم مرةً وغُمِط دَوْرُه أُخرى.. ظلم بتشويه ما عُرِفَ من عمله، وغمط بجهل دوره الكبير في إتمام فتح الأندلس، الذي بدونه كاد أو كان سيضيع، فثبت أركان هذا الفتح العظيم. وهو أحد أولاد موسى بن نصير، ونعرف منهم خمسة، كلهم مجاهدون. هو وعبدالله (أكبرهم) وعبدالملك وعبدالأعلى ومروان الذي يقال إنه (أو أحد ممن) قتل "لذريق" ملك وقائد القوط في معركة شذونة. أما غمط حقه، فقد حجب الكثير مما قدم من دوره الجهادي في الأندلس، حيث يتزاحم مع ما قدمه أبوه موسى وطارق. ثلاثتهم أتموا الفتح، وبجهودهم المباركة تكاملت عمليته الباهرة. فعندما ترك موسى وطارق الأندلس في ذي الحجة 95هـ ، عُيِّن عبدالعزيز والياً واتخذ إشبيلية عاصمة للأندلس. واستمر أكثر من سنتين، حتى مقتله. بدأ الوالي عبدالعزيز بترتيب وإقرار ما تم فتحه وتثبيت واستكمال ما لم يتم، فقام بكل ذلك وأداه بأحسن وجه، فكان أول والٍ للأندلس، وضع أُسساً للسياسة الإسلامية اقتفاها الولاة بعده. كان عبدالعزيز تقياَ صواماً قواماً قوياً وحريصاً، مع نشاط وإقدام، كما كان إدارياً وعسكرياً ماهراً،إلى جانب حبه للإصلاح والقيام به دون تأخر. نظم أحوال البلاد، لم يثنه ذلك عن إتمام الفتح، قضى على الجيوب.. أشادت مصادر بجهوده لخدمة الأندلس، حيث "ضَبَطَ سُلْطانَها، وضَمَّ نَشَرَها، وسَدَّ ثُغورَها، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، مما كان قد بقي على أبيه موسى منها، وكان من خير الولاة، إلا أن مدته لم تََطُُلْ". وكانت سياسته تجاه المجتمع تتسم بالرفق والاعتدال والوفاء بالعهود في كل الظروف، حتى لو فَوّتَ نفعاً. فلم يحدث أن نقض المسلمون عهداً أبرموه أبداً. وكان عبدالعزيز من أول من سار بهذا النهج الإسلامي الفريدالمشهود، حتى حين خدعهم "تدمير"، لكنهم مضوا على الوفاء له، وكان الوفاءُ عادَتَهم. إن المتابع لما ورد في المصادر عن عبدالعزيز يجد ما يذهله من سعة الفجوة بين واقعه وكثير مما ورد عنه فقراً ومكراً، لنوعيته الفذة ونشاطه المتنوع المتقن. ولدى تدبرها وإمعان النظر في حياته، ليعجب كيف غيمت وخيمت عليها من الظلم الذي شمل مرة تحجير وتضمير سيرته وأُخرى تشويه ما تبقى منها، أو إن شئت القول إنها توزعت بين الحجب والشجب، وهو في كليهما مظلوم. فلا بد من المتابعة لمعرفة ما غاب من أخباره والعمل على تجلية حقيقة ما حضر منها، لكن الاستدلال بالقليل الجيد من أخباره ليدل على فخامة وضخامة وكرامة ما قدمه كماً وكيفاً. تذهب بعض المصادر إلى أن عبدالعزيز تزوج أرملة لُذْرِيق ملك القوط، واسمها أجيلوناEgilona) أيْلُهْ) ويسمونها : أُم عاصم. وغير واضح إذا كانت قد أسلمت، ولا أستبعده لا سيما بعد الزواج، وأُرشح أنه أقدم على ذلك لكسب وُدِّ قومها القوط ، وإلا فالتوقع أنها كانت كبيرة، ولا مانع من قبول هذه الرواية، والأمر مألوف لا سيما في الأندلس. لكن هنالك مانع وألف مانع من قبول بقية القصة ، وهي أنها دعته للتنصر ففعل، وألبسته التاج كالملوك، ووضع مدخلاً يضطر الداخل إليه للانحناء!! ولذلك قُتِلَ. الغريب.. من أين أتت هذه الحكاية؟! ألا يمكن أن تكون كنسية؟ لا فرق بينها وبين حكاية ابنة يُلْيان وفتح الأندلس، بل أكثر إغراقاً. كيف يمكن أن يُقْبَل هذا لإنسان تموج حياته بالتقوى والزهد والجهاد، ومن أُسرة معروفة به. وفي أقل القليل أنه بعد توليه الأندلس استمر في الفتح والجهاد، وحتى حياته الخاصة بقي في بيته البسيط القريب أو المجاور للمسجد الذي كان ملتقى المسلمين ومجمع مداولاتهم وموضع عبادتهم، الذي كان هو يؤمهم فيه، حتى لدى مقتله في صلاة الصبح، وكان يمكنه أن يسكن أحد القصور المتاحة له، حيث كانت إشبيلية إحدى عواصم أربعة يتداولها القوط. الذي يبدو أن بعض أولاد موسى دخلوا الأندلس مع أبيهم (92هـ) مجاهدين، كان منهم عبدالعزيز ومروان، وكُلِّف كل منهما بمهمات الفتح. وأن عبدالعزيز كان في ركاب والده خلال فتحه لمدن قبل طليطلة، فوجهه لاستكمال أو إعادة فتح إشبيلية، ثم فتح لَبْلَةNiebla وباجة Beja (البرتغال)، وأقام بإشبيلية عقب شوال سنة 93هـ، ويوم ترك موسى الأندلس عام95هـ اختاره والياً. لكن لدينا معلومات أن عبدالعزيز خلال ذلك، فتح مناطق في شرقي الأندلس قبل ابتداء ولايته من مثل تُدْمِير، ووقع مع أهلها صلحاً، وهي من الوثائق الأندلسية القليلة التي وصلتنا، ونصها: "هذا كتاب من عبدالعزيز بن موسى لتدمير... رجب سنة 94هـ". والظاهر أنه فتح مناطق هناك، ربما قبل ولايته وخلالها في شرقي الأندلس لعله حتى بلنسية Valencia وكذلك في غربيه، حتى استقرت الأمور، ثم قام بالتنظيم والحفاظ على أهداف الفتح والعمل على إقرار الأوضاع. |
ابن النفيس.. الطبيب الرائد والمبدع الواعد (1/3) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة السادسة ابن النفيس : علاء الدين علي بن أبي الحَزْم القَرْشي، أو الحَرَم القََرَشى ( 607 687 هـ = 1209 1288م). أصله من مدينة قّرْش، فيما وراء النهر، أوقَرَش قرية قرب دمشق. مولده في دمشق، حيث تلقى العلوم في القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة والأدب والتاريخ والطب الذي عرف به وبرز فيه ، أكثر من غيره. أصبح من أعلامه وكبار أئمته ، "وكان علاء الدين إماماً في علم الطب لا يُضاهَى في ذلك ولا يُدانى، استحضاراً واستنباطاً... وله فيه التصانيف الفائقة والتواليف الرائقة" كما يقول صديقه وزميل دراسته في دمشق والقاهرة للطب: موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن أبي أُُصَيْبِعة (668هـ =1270م) في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء". بدأ دراسته الطبَ في دمشق ، إثر أزمة صحية ألمت به سنة 629هـ = 1231م، وكان عمره حينئذٍ 22سنة ، وذلك من أجل أن ينفع الناس. وهذا ما تنشئة البيئة الإسلامية، العلمية الكريمة الإنسانية. كان كريم النفس حسن الخلق صريح الرأي، متديناً على المذهب الشافعي، بل ويُعْتَبَر فقيهاً شافعياً. رحل الإمام العلامة الموسوعي ابنُ النفيس إلى القاهرة. غدا هناك رئيس أطباء مصر، عمل في البيمارستان المنصوري (مستشفى قلاوون حالياً)، أكبر مستشفياتها وقتها، كان مُشْرِفاً عليه (مديره)، بجانب رئاسته الأطباء حتى وفاته. ابن النفيس طبيب أولاً، ثم فيلسوف وفقيه، ألَمَّ وحاز العديد من العلوم، عُرِفَ ببعضها. ففي الطب له العديد من الكتب تأليفاً، من مثل: الموسوعة الطبية النادرة أو العديمة المثال: "الشامل في الصناعة الطبية". وهي أضخم موسوعة طبية في التاريخ الإنساني يكتبها شخص واحد. كان قد وضع مسوداته لتأتي في ثلاثمائة مجلد، أنجز منها ثمانين مجلداً ووهبها جميعاً وكل مكتبته ودارَه وأمواله، وقفاً إلى المستشفى المنصوري. وكان في القاهرة قد ابتنى داراً وفرش إيوانها بالرخام، ولعلها كانت مجلس علمه ولقاءاته ودروسه، غير بيت أسرته أو ملحق بها. وبالتأكيد فإنه أَوْقَف ذلك تديناً وليس لأنه لم يكن متزوجاً، كما توهم البعض. فهو أبو محمد(تبركاً) أحد أولاده. وقد شاهد المجلدات الثمانين هناك كاملة ابنُ فضل الله العمري(749هـ = 1349م) ، صاحب موسوعة المسالك والممالك ، التي يقوم المجمع الثقافي في أبو ظبي بطبعها. ويعتبر الشامل ثالث موسوعة في الطب الإسلامي، بعد الحاوي لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي (320هـ = 933م)، والقانون للرئيس أبي علي الحسين بن عبدالله بن سينا ( 428هـ = 1037م). والموسوعات العلمية سمة من سمات حضارتنا الإسلامية. طريقته في التأليف: كان يكتب من حفظه وتجاربه ومشاهداته، إذا أراد التأليف تُجَهّز له الأقلام مَبْرِيّة، ويبدأ الكتابة من خاطره مثل السيل إذا تحدر، فإذا كلَّ القلمُ رَمَى به وتناول غيرَه، لئَلا يَضيع الوقتُ في بَرْيِه. وقال عن مؤلفاته : " لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها". لعله يشير بذلك إلى أن مؤلفاته، فيها من السبق والمادة العلمية التي يبقى الناس يحتاجونها ويرجعون إليها، ناهلين منها مثل هذه المدة. وهكذا نرى أنه، بعد قرون من الإخفاء والإبعاد والظلم، يهيئ الله تعالى من يعيد الحق لأهله، إلى درجة أن ما كتب عنه وعن مكتشفاته باللغات الأوربية أكثر مما كتب بالعربية. فالحق لا يضيع، بل يقيض الله سبحانه وتعالى له من أهله أو غير أهله، من يرعاه ويظهره أو يدعو له، ولا يضيع حق وراءه متابع، ولو بعد حين. وتلك سنة الله في خلقه وعدله وحكمته. كان ابن النفيس يتمتع بعقلية قوية مستقلة فاحصة، فلربما كان من أول من قال برفض كلام الطبيبين اليونانيين الشهيرين: أَبُقْراط "الذي يُعتبر أبا الطب" مثلما كان يغض من كلام (Hippocrates) 460-377))، (A.C.) وجالينوس "الذي يُعَدّ أكبر الأطباء في العصور القديمة" (Galen)، (127-200)، (A.D.) واصفاً إياه بالعَيِّ والإسهاب الذي ليس تحته طائل، ولا يَنظر إلى كلامه بكثير من الاعتبار، بل يراه ضعيفاً ومملاً وخاوياً، في وقت كان من الصعب أن ينقده أحد. ولثقة ابن النفيس بنفسه وعلمه وعمله، أنه لم يُلْقِِ بالاً كبيراً إلى قدامى الأطباء وعلمائهم، وما يُكِنّ لنظرياتهم كبير احترام، وكان قاسياً في نقده لهم. ولعل هذا بسبب عبقريته المتمكنة وعمق فهمه وشمول علمه، لتأكده من صحة ما لديه. وبهذا تمت له إبداعاته وكشوفاته وسبقه. وهو شأن الحضارة الإسلامية وحقيقة إبداعاتها وسمو منجزاتها، حيث ابتنت مجتمعاتها على الإسلام عقيدة وشريعة، الذي وهبها هذا التقدم المتميز الإنساني، في وقت كان الجهل والتوحش والظلمات تموج بالشعوب والأقوام والدروب من حولهم، وهي التي قدمت للعالم هداياها الكريمة ابتداءً، النور والعلم والحضارة الفاضلة، مَنْ قَبِل به أو بثماره، وإن أنكر بعضهم مصدرها، أو ذمها بل ومن عاداها، وهو يُسْعَد بثمارها! |
ابن النفيس.. الطبيب الرائد والمبدع الواعد .. مؤلفاته (2/3) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة السابعة شرح ابن النفيس عدة كتب طبية لمن سبقه مثل: كتاب "القانون" لابن سينا (428هـ =1037م) في عشرين جزءاً ، وموجز القانون (اختصر به قانون ابن سينا) ، وهو كتاب كبير في الطب. كما كَتَبَ ابن النفيس في الفلسفة والمنطق ، فله كتاب فاضل بن ناطق ، بمنحى متميز ، معارضاً أو على نسق كتاب ابن طُفَيْل الأندلسي : أبو بكر محمد بن عبدالملك (581هـ = 1185م) في كتابه حَيّ بن يقظان ، أو لابن سينا بالعنوان نفسه ، كذلك نجده صنّف في أصول الفقه والفقه والحديث والعربية والتاريخ ، وله كتاب: المختصر في علم الحديث، والرسالة الكاملية في السيرة النبوية. ولذلك أفرد له السُبْكِي ترجمة في طبقاته الشافعية الكبرى، باعتباره أحد فقهائهم (5-129. انظر كذلك : شذرات الذهب ، 5-401، دول الإسلام للذهبي 2-143، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أُصَيْبعة ،414 وما بعدها. مقدمة محقق كتاب الشامل ، الدكتور يوسف زيدان ، 1-453 ، والدكتور يوسف مهتم بابن النفيس ، فله كتاب عنه : علاء الدين (ابن النفيس) القرشي إعادة اكتشاف. الأعلام، الزِّرِكْلي ،4-271270، تلخيص مجمع الآداب ، ابن الفوطي ،2-117 118، النجوم الزاهرة ، ابن تَغْرِي بَرْدِي 7- 373، مسالك الأبصار ، ابن فضل الله العمري 9-620615، تحقيق بسام محمد بارود ، حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ، جلال مظهر349364). كان ابن النفيس إماماً متقدماً في علم الطب راسخاً فيه ، فاق به كثيراً غيرَه ، ولعله يعتبر أول أو أكبر من دَرَسَ وعَرَفَ علم وظائف الأعضاء (Physiology) . وكان من عاداته أنه "لا يصف دواءً ما أمكنه أن يصف غِذاءً، ولا مُرَكّباً ما أمكنه الاستغناء بمفرد"، وهذا دليل على فهمه وإدراكه الجيد وبراعته في العلاج. كما يعتبر بحق أول من عرف ووصف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الرئوية) ، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئوية والشرايين التاجية ، وربما كذلك يعتبر مكتشف الدورة الدموية الكبرى!! حيث لايجوز توقيف جهوده عند هذه الحدود رغم ريادتها بل إن هذا كله بعض مساهماته ، في ميدان مهنته ، التي أغناها بالمبتدعات المتنوعة. ثم تأكيده على الجدية في العمق وتبني المنهجية الأمينة الرصينة وقواعد العلم المتينة ، والمنهج العلمي التجريبي الجاد المتجدد ، وعلى قواعد البحث العلمي المترقية ، إلى اعتماده التجرِبة (الدُّرْبة). إن أبكر مَن كتب عن الدورة الرئوية مِن الأطباء الأوروبيين ، كان بعد ابن النفيس بنحو ثلاثة قرون ، رغم أنه لم يكن كشفاً حقيقياً من قبلهم ، بل اعتماداً كلياً على ما تُرْجِم لهم من العربية إلى اللاتينية مما كتبه ابن النفيس وغيره ابتداءً، ممن سبقه أو لحقه. لقد تناول ابن النفيس الحديث عن الدورة الرئوية في أكثر من مكان في مؤلفاته ، لا سيما في شرحه لقانون ابن سينا : شرح تشريح القانون ، وهذا قد يشير إلى أن ابن النفيس كتب عن ذلك في بواكير سني نضوجه في العلوم الطبية ، وظهر تقدمه فيه ، مع أن أُولئك الأوروبيين لم يشيروا إلى ذلك أو يعترفوا به!! وإنما نسبوه لأنفسهم. أليس بذلك يصح قول من قال: إن الحضارة الإسلامية سابقة للحضارة الأوروبية بخمسة قرون أو تزيد بمقدار كبير، باعتراف بعض أهلها (حضارة العرب ، 568 حضارة الإسلام 525)؟ وفارق آخر هو: أن الحضارة الإسلامية قدمت ما قدمته ابتداءً ، ومن ركام دراسات سابقة في هذا الأمر ، لا تسمن ولا تغني من جوع ، كانت في ادعاء مكان الإمامة التي لاتُخالَف. ولقد اعتمدت الحضارة الأوروبية كل الاعتماد على ما تُرْجِم إليها من الحضارة الإسلامية ، ولو أخذتها كلها بمبناها ومعناها وفحواها ، لاكتملت أركانها وقيمها وإنسانيتها ، وما أخذته مما عداها ، خربت به بنيانها الإنساني وذهبت بها الرياح يمنة ويسرة. وللعلم فإن كلمة أو مصطلح التكنولوجيا ، هو من الكلمة العربية : التقانة أوالتقنية (Technology). إن العديد من الكتب العلمية التى نُقِلَت إلى الغرب لا سيما الطبية بقيت هي نفسها تُدَرّسها الجامعات الأوروبية لنحو ستة قرون، لا سيما جامعة مونبلييه الفرنسية، التي كانت مَعْقِلاً لتدريس كتب الطب الإسلامية والأندلسية ، (Montpellier) وحتى عهد قريب ، إلى حد أن بعض أساتذتها كان من الأندلسيين ؛ علماً أن المسلمين لم يحتاجوا إلى نصف هذه المدة ليبدعوها ابتداءً. حديث ابن النفيس المتكرر لمرات عدة عن الدورة الرئوية (الدورة الدموية الصغرى) ، يدل على فهمه لها ووثوقه من اكتشافه العلمي الرائد هذا، ومعرفته الواضحة لوظيفتها وطريقة عملها ، ناقداً ومفنداً ومعارضاً ، حتى آراء ابن سينا الذي تابع جالينوس واعتمد عليه رغم أن ابن النفيس هو الذي شرح العديد من كتبه. فعل ذلك مبيِّناً : أن أطباء "اليونان لم يفهموا وظائف الرئتين والأوعية التي بين القلب والرئتين ، وأنه فَهِمَ وظيفتَها وأوعيتَها وتركيبَ الرئة والأوعية الشَّعْرية ، التي بين الشرايين والأوردة الرئوية. وشَرَحَ الفُرَج الرئوية شرحاً واضحاً ، كما فَهِمَ أيضاً وظائف الأوعية الإكليلية (التاجية) ، وأنها تنقل الدم ليتغذى القلب به، ونفى التعميم القائل: إن القلب يتغذى من الدم الموجود في البطين الأيمن". |
ابن النفيس.. واكتشاف الدورة الدموية الصغرى (3/3) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الثامنة اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى ، وهي دورة الدم في الرئتين ، حيث يخرج الدم من البطين الأيمن من القلب ، في الشريان الرئوي إلى الرئتين ليُنَقّى (يأخذ الأُكسجين من الهواء فيها ويُطْلِق ما عداه) ثم يعود إلى البطين الأيسر من القلب، ليتغذى به الجسم. Bloods Circulatory System Blood Pulmonary Circulation Lesser circulation (Sp. La Circulacion Pulmonar) لكن المعروف الشائع، الذي يدرس في كليات الطب عموماً حتى الآن ، أن علماء وأطباء الغرب هم مَن اكتشفها ، شأنها شأن المنجزات الأُخرى العديدة والكشوف الرائدة للعلماء المسلمين ، الذين ملأوا الميادين بعلومهم وإبداعاتهم. لكن شيئاً فشيئاً تتكشف الحقائق ويعود المفقود لأهله ، ويُنْقَذ من الظلم والإنكار والتجهيل ، الذي يوجب بديلاً أن يكرم ويُجاز ويُقدم. تنازع هذا الاكتشاف الذي نسبوه لأنفسهم ، عدد من أهل الغرب ، فيدعي الإنجليز أنه لطبيبهم وليم هارفي ( 1557-1578 م ). ومثل ذلك فعل الإسبان ، فنسبوها إلى أحدهم ، ميخائيل سيرفيتوس (29/9/1511 -/10/1553م) ، إسباني من شمالها ، لعله من مدينة تُطَيَلة (أرغون) الذي لم يكمل دراسته طبيباً ، وإنما دَرَسَ الطب في جامعة السوربون في باريس ، ولم يكملها ، لاتهامه بأمور دينية ، لكنه اشتغل بالطب فيما بعد. كان مهتماً أكثر من ذلك بالأمور الدينية المسيحية وعقيدتها ، مما جعله يؤلف باللاتينية العديد من الكتب في هذه الموضوعات. ثم كتب مؤلفاً في إحدى موضوعاتها ، ضمنه أجزاء من كلام ابن النفيس ، كان مُتَرْجَماً إلى اللاتينية لم يُشِرْ إليه. كتابه الجديد والأخير طبع باللاتينية أوائل سنة 1065هـ = 1553م ، يتحدث عن العقيدة المسيحية ، وجعل عنوانه (عودة المسيحية ) ، تعرض في هذا الكتاب إلى أمور في الطب ، عارض فيها آراء جالينوس الطبيب اليوناني في موضوع الدورة الدموية ، لكن جُلَّه متعلق بأمور في العقيدة الدينية مخالِفاً للكنيسة ، وحتى لآراء المصلح الديني واللاهوتي الفرنسي البروتستانتي الشهير "كالفن" (1509 - 1564 م) الذي حمل راية الإصلاح الديني في فرنسا وسويسرا. كان سيرفيتوس قد نقل بعض كلام ابن النفيس عن الدورة الدموية ، دون إشارة ، كأنها من كلامه. وألقت الكنيسة القبض عليه في فيين بفرنسا ، إلا أنه هرب من سجنه فاراً متنكراً حتى جنيف عَبْرَ أيطاليا ثم عُرِفَ فأُلقي القبض عليه وحوكم من قبل الكنيسة والبروتستانت الكالفنيين ، وحكم عليه بالموت حرقاً. لكن "كالفن" اقترح أن يُقْتَل إعداماً. بينما أصرت الكنيسة على إعدامه حرقاُ ، حيث يُشَدّ إلى عمود (خازوق) وتُشْعَل فيه النار، وقد تم. لقد تأثر بآرائه وموقفه أناس ، كَوَّنوا فهماً ، اتجهوا بعقيدتهم نحو مذهب جديد عُرفوا ب"المُوّحِدون" لايزالون متواجدين متناثرين في عديد من الدول الأوروبية. ثم أُُحْرِقت كتبه بعده. الظاهر أن بعضها نجا ، كان منها كتابه الأخير ، الذي يحتوي نص ابن النفيس المترجم بالواسطة ، والذي يتوافق معه كلمة كلمة ، ولم يشر إليه ، كأنه من إبداعاته. وهذه الترجمة اللاتينية التي نجدها لدى سرفيتوس في كتابه الأخير كان قد قام بها قبله أولاً سنة 954هـ = 1547م الطبيب الإيطالي أندريا الباجو الذي عاش سنوات في البلاد العربية والإسلامية ، تعلم لغتها وترجم العديد من كتبها إلى اللاتينية ، كان منها لابن النفيس ، ومنها كتابه : شرح تشريح القانون ، حيث يشرح الدورة الدموية الصغرى ، وربما غيرها. وقد شَهِد بذلك مايرهوف ربما على مضض ، حيث عاد عنها ملتوياً قائلاً: "إن مما أذهلني هو مشابهة لا بل مماثلة بعض الجمل الأساسية في كلمات سِرفيتوس لأقوال ابن النفيس التي تُرجمت ترجمة حرفية". ويقول ألدو ميلي في كتابه بالفرنسية: "العلم العربي ودوره في التقدم العلمي العالمي " : إن بعض فقرات عند سِرفيتوس منقولة كلمة بكلمة من مؤلَّف ابن النفيس". لكن ابن النفيس بقي مظلوماً قروناً متتالية حتى أظهره كبش الفداء الطبيب المصري اللبيب (دكتوراه الطب) محيي الدين التطاوي، الذي ابتعثته جامعة القاهرة لدراسة الدكتوراه في ألمانيا. وبينما كان يتابع دراسته اطلع على مخطوط لابن النفيس في إحدى مكتبات برلين ، فوجئ مندهشاً بنص فيه ، يتحدث عن الدوة الدموية الصغرى ، فأَطْلَع عليه أستاذَه الذي رغب إليه أن يجعل ذلك موضوع دراسته ، ففعل. كما حثه على إرسال هذا النص إلى جورج سارتون في أمريكا ليجعله في كتابه الكبير (مقدمة لتاريخ العلوم ) ، ومنذ ذلك اليوم بدأت الكتابات بلغات عدة ، في دراسة ابن النفيس متسعة ، وباعتباره هو المكتشف الحقيقي للدورة الدموية الصغرى (والكبرى) وكشوفاته الأخرى ومتعلقاتها. أما الدكتور الطبيب محيي الدين التطاوي فقد كان هو الضحية ، حيث إنه حين عاد من ألمانيا سنة 1924م إلى جامعة القاهرة بدكتوراه الطب من جامعة ألبرت لدونج (أو فرايبورج) ألمانيا ، في موضوع: "الدورة الدموية الرئوية وَفْقاً للقَرْشي (ابن النفيس)" رفضت كما ذُكِرَ الاعتراف بشهادته ، إلى حد أنه لم يُمنح إجازة ممارسة الطب العام بالبكالوريوس ، فاضطر أن يمارسه متجولاً في القرى طبيباً شعبياً ، ثم مرض نتيجة ذلك ، قضى هكذا محروماً مظلوماً. |
الحسن بن الهَيثم مبدع الفنون.. متهم بالجنون! د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة التاسعة ابن الهَيْثَم: أبو علي (محمد بن) الحسن بن الهيثم البصري، (354 -430هـ) = (965- 1039م) مهندس وفيزيائي وفلكي. ولد ودرس بالبصرة واستقر بمصر، سكن بجوار الأزهر وانصرف إلى التأليف. كان ملتزماً مغرماً بالعلم متابعاً مبكراً. وُزِّرَ بالبصرة، ثم تركها (الوزارة) إيثاراً للعلم. "كان فاضل النفس قوي الذكاء مُفَنَّناً في العلوم كثير التصنيف ظاهر الزهد". مؤلفاته فوق السبعين، كثير مفقود، وتُرْجِم العديد للاتينية في بدايةَ حركة الترجمة الأوروبية للعلوم الإسلامية Science )، لا سيما العلوم البحتة، التي استمرت لقرون، من خلال مراكز أُقيمت لهذا الغرض. والمتابع لما أنتجته الحضارة الإسلامية في العلوم البحتة، يجد آلاف الكتب الضخمة، موسوعات، يُكَوِّن المُؤَلَّف عشراتِ الأجزاء، دليل كثرة النِّتاج العلمي الإسلامي الغني المدرار المتنوع، بأُسلوب مُعَبِّر واضح مفهوم بسهولة، مما يجعلنا نسخر من مقولة: صعوبة العربية لغة الإعجاز القرآني وأنها دون قدرة التعبير عن العلوم ولا تستوعبها، حاشاها، حيث يتأكد دون تردد أن ذلك أحد المظالم، إما نتيجة الجهل أو العداء أو الجري الببغاوي دون تمحيص أو إن شئت جَرْيَ العبيد، لأن العربية أقدرُ لغة. ومن الأدلة: الكلمات العلمية العربية، حين ترجمت علومها أُبْقِيت، تجد مئات الكلمات، إن لم يكن آلافها. وتتبين هذه البديهية، بوضوح وتأكيد وتحقيق، عند إلقائك نظرة متفحصة في مؤلفات المسلمين العلمية. وأمر مهم: هو أن العربية غدت عند العلماء الأوروبيين ودارسيهم وَحْدَها لغة العلم، باعترافهم. وبالنسبة للكتب العلمية الإسلامية المترجمة للاتينية وبناتها، كانت الزاد والمورد الوحيد لحركة العلوم وابتداء النهضة في أوروبا. ومن الطرائف: أن الترجمات تكرر طبعها، وبقيت جامعاتهم تنهل منها لقرون، ثم أمكنهم أن يبدؤوا بإنتاجٍ، آخذين أفكارها، دون الإشارة إلى مصدرها، في الأغلب. والمؤلم أن العديد من هذه الكتب الأُمهات المترجمة ضاع أصلها العربي، ولديهم، نصها العربي. وكم مؤلفات طبعت مترجمة، لم تطبع عندنا. كان ابن الهيثم عبقرياً فذاً ومبدعاً متفوقاً وسباقاً بعيد الشأو، نبذ آراء السابقين من علماء اليونان وكشف تهافتها. وضع العديد من المؤلفات والبحوث في البصريات وثبت مبدعاً قوانينها. قدم دراسات الضوء، لا سيما كتابه "المناظر"، لعله ما يزال مخطوطاً، تُرْجِم إلى اللاتينية كله أو بعضه مبكراً، لكنه ترجم كله خمس مرات إلى اللاتينية كاملاً فيما بعد سنة 980هـ = 1572م، مما كان له الأثر البالغ في تعريف الأوروبيين بهذا العلم. ثم تُرْجِم ونُشِرَ بالألمانية كتابه "كيفية الإظلال"، وكتابه "المرايا الحارقة". علم البصريات وصل أعلى ذروة التقدم، بجهود ابن الهيثم؛ حيث يعتبر من علماء البصريات القلائل عالمياً، بل: إنه منشئ علم الضوء الحديث. عارض ابن الهيثم نظريات إقليدس وبطليموس البدائية القائلة : إن العين ترسل الشعاعات البصرية إلى الأجسام المرئية، وبهذا يكون الإبصار! مبيناً أن الضوء موجود في ذاته مستقلاً، وبه يكون الإبصار. يعتبر مؤسس فكرة العدسات المكبرة وانعكاسات الضوء والغرفة المظلمة، والتي بُنِيَ عليها التصوير الضوئي، وإن عبارة "الغرفة المظلمة" مترجمة حرفياً : (باللاتينية). Camera Obsecu . يعتبر ابن الهيثم من الداعين والمتبنين والمبدعين لمنهج البحث العلمي التجريبي الذي اقتبسه الغرب ، ويعتبر العالم الإنجليزي روجر بيكون (1292م) من رواده ومن علماء البصريات. وقد ظُلِمَ ابن الهيثم ثلاث مرات: مرتين من أهله ، ومرة من الغرب. مرة حين أراد التخلص من عمله في البصرة ليتفرغ للعلم "أظهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره، حتى تمكن من مراده". وأخرى لما سمع الحاكم الفاطمي (411هـ =1021م) بفكرة ابن الهيثم أن يعمل للنيل عملاً يحصل به النفع في كل موسم، استدعاه لهذا الغرض، فحضر وذهب لمعاينة النيل عند أسوان ومنطقة الجنادل، ولم يمكنه تنفيذ فكرته، فخاف من الحاكم. فعاد لإظهار الجنون، حتى وفاة الحاكم. ولكَم توقفت عند هذه الحكاية، التي يرويها العديد، واستغربت منها، حتى وجدت البيهقي علي بن زيد(565هـ) يقول في كتابه "تاريخ حكماء الإسلام": إن ابن الهيثم لما خاف على نفسه من الحاكم هرب إلى الشام وأقام عند أحد أُمرائها. أما الثالثة : فالغربيون لم يعرفوا شيئاً من ذلك، حتى اتصلوا بالعالم الإسلامي علمياً، فنقلوا علمه، ودرسوه يتعلمونه لقرون، حتى أمكنهم أن يقولوا فيه شيئاً، بناءً عليه أو أخذاً له أو اقتباساً منه، وبعضهم ادعاه لنفسه، من غير إشارة إلى أهله ومنبعه ومبدعه، غير ما كان يفعل المسلمون أمانة. سار الزمن على هذا المنوال حتى تهياْ من يرد الظلم عن المظلومين، ويعيد الحق لأهله. اعتمد الدارسون الأوروبيون لهذا العلم على كتاب المناظر كاملاً، منهم: بيكون الإنجليزي(1292م) و كبلر الألماني (1630م) وليوناردو دافنشي الإيطالي ( 1519م)، إلى حد وَصَفَ العالمُ الإيطالي دِلاّ بورتا فيتلو البولندي بالقرد المقلد. أخذه الكثيرون ولم يعترفوا، دراسات تنسب المبتكرات لغير أهلها. ولكن وجد علماء ردوا الظلم وأعادوا الحق لأهله. |
الناصر لدين الله.. سيرته وخصاله (1/2) د. عبد الرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة العاشرة مرت الأندلس (إسبانيا والبرتغال)، خلال حياتها ذات القرون الثمانية، بين مدٍ وجزرٍ، في أمور عِدَّة. خَطُّها البياني مُتفاوتٌ في التفوق والتمزق. تمتعت بكثير من الخير فيها، وأحياناً إلى حد الامتلاء، لا سيما القرون الثلاثة الأولى من عمرها، وأولها (أغناها) آخرها (القرن 4هـ =11م). مسيرةٌ رعاها كثيرون، رُعاةٌ عِدَّةٌ يَقودونها، أمانة وتضحية وفداءً، حِراسةًً لهذا الهرم المجيد الرشيد. منهم في ظاهره، وآخرون حسب مواقعهم. على رأسهم الناصر لدين الله: عبدالرحمن (الثالث) بن محمد، الثامن من حكامهم، دامت خلافته فوق خمسين عاماً (300-350هـ=911-961م). وَرِثَ جَدَّه عبدالله الذي اعتنى به وقَرَّبه. ومن عجبٍ أنه تولى الحكم وعمره 22 عاماً، رغم مَنْ كان بالحضرة أكابر أعمامه وذويه، الكل بايعه، لم يخالفه أحد، بل كلهم أعانه ووقف معه. كان شهماً صارماً، كثير الجهاد يقوده بنفسه (نفح1-353). يحسن اختيار أهل المسؤولية، ويجيد تماماً اصطفاءهم، يحاسب عماله برفق ويعفوعن المسيء، يفي بوعوده وعهوده للجميع، اكتسب ثقة الناس بتواضعه. كان يقبل نصائح مَن حوله، بل والنقد الشديد، منها: كما جرى له من قاضي الجماعة بقرطبة منذر بن سعيد البلوطي، الذي عَرَّض به مراتٍ في خُطبه وبحضوره (المغرب1-183-185فرحة الأنفس، ابن غالب، 304303، نفح1-570-572). كان غاية في الذكاء والبديهة، بها يقول الشعر. وله أبلغ التوقيعات. كان دؤوباً لا تفتر له همة، ذُكِرَ "أنه وُجِدَ بِخَطّ الناصر يرحمه الله: أيامُ السرور التي صَفَتْ له دون تكدير (خلال الخمسين سنة) يومُ كذا وكذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا (أيام الإجازة والراحة)، وعُدَّت تلك الأيام، فكانت أربعة عشر يوماً! (المغرب1-182 نفح1-379= أزهار2-282 سير أعلام النبلاء 8-266). كانت الأندلس قبله إمارةً، حاكمها أمير، أعلنها خلافة سنة 316هـ = 929م، استجابة لموقعها في العالم الإسلامي، إذ غدت أكبر قوة سياسية وحضارية فيه، بل ربما في العالم كله، ولا عجب. أصبحت قرطبة قبلةً أو محوراً مركزياً عالمياً، يخطب وُدَّها الآخرون، شرقاً وغرباً، ومن العالم غير الإسلامي، سيما مَنْ حولها، ومن القارة الأوربية. يسعون جميعاً لطلب صداقتها والتقرب إليها، إلى حد التوسط عنده لحل خصوماتهم وطلب حاجاتهم، في كل ما يَعِنّ لهم، مثلاً، في: طبهم وتعلمهم واستشارتهم. لكن كَثْرةٌ منهم كان لها غيرَ وَفِيّ. الأخبار الموثقة تؤكد ما ذُكر، بل وتزيد عليه : أن الدروب إلى قرطبة تموج بالقاصدين، تستقبلهم وتلبي حاجاتهم، على نية الوفاء، وتفعل، وذاك سمتها المعروف، غير ما يفعل الآخرون، لا يلتزمون، قليلاً ما يفعلون، إلا لعِلّةٍ خارجة، امتلأت الدروب نحو قرطبةِ الخلافة مُيَمّمين، حتى كبار الحكام والأمراء، والأباطرة الكبار يفعلون. أرسل إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة (ألمانيا) : أوتو الأول، الكبير، سفارةً إلى الناصر سنة 342هـ = 953م، يرأسها كبير الرهبان الألمان : يوحنا (يوحنى) الغرزيني يسأله التدخل والتكفل بإنهاء الوجود الإسلامي لديهم، فكيف يمكن أن يتم ذلك؟ ولأسبابٍ بقيت هذه السفارة في قرطبة ثلاث سنوات، حتى تمت المقابلة، في قصر مدينة الزهراء، في قاعة السفراء: "المجلس المؤنس". خَيْرُ مَنْ وَصَفَ هذه الوِفاداتِ.. ابنُ حَيّان القرطبي (469هـ)، التي ضاعت، وحفظها ابنُ خَلدون في عبره والمَقّري في نفحه: "ومَدّتْ إليه أُممُ النصرانية من وراء الدروب يَدَ الإذعان، وأوفدوا عليه رُسُلُهم وهداياهم من رُومة والقُسْطَنْطِينِيَّة في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يَعِنّ في مرضاته، ووصل إلى سُدَّته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قَشْتالَة وبَنْبُلُونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية (الحدود الشَّمالية)، فقَبَّلوا يَدَهُ والتمسوا رِضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه"، وذلك: "أن مُلْكَ الناصر بالأندلس كان في غاية الفخامة ورفعة الشأن، وهادته الروم وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تَبْقَ أُمّةٌ سَمِعتْ به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأُمم إلاّ وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية" (نفح الطيب,1-354, 366).َ إذن كيف ظُلِمَ ؟ ربما هناك بعض مظالم لَحِقَته، قَلّتْ أو كَثُرتْ، يُشار إلى اثنتين منها: الأولى: شائعة تُرَدّد قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً. والثانية: تجدها على الأغلب لدى كتاب غربيين، ربما انتقلت إلى آخرين غيرهم. كلتاهما وَهْمٌ وافتراء، وسوف نشرحهما ونفندهما في العدد القادم بإذن الله. |
الناصر لدين الله.. (2/2).. الرد على الافتراءات د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الحادية عشرة هناك بعض المظالم التي لَحِقَت بالخليفة عبدالرحمن الناصر.. وسنتناول اثنتين منها: الأُولى: حول بنائه لمدينة الزهراء. يقولون: سبب بنائه لها، أن مَحْظِيّة له اسمها الزهراء - إن وُجِدَتْ أصلاً - تبرعت بمال لديها، أو من أخرى سبقتها، لفك أسرى المسلمين. فلما لم يجد أسرى، أو فكهم جميعاً، بقي مال كثير، فرغبت إليه أن يبني لها مدينة جميلة (أو: مُنْيَة = قصر ضخم)، تحمل اسمها لتسكنها، ففعل. فكانت مدينة الزهراء هذه بكمالها! والحق أن هذه الحكاية غريبة ومضحكة وعجيبة وإنْ ربما بدت لا تخلو من حَبْكَة لمن له معرفة، فضلاًً عن التخصص، بالتاريخ الأندلسي. والظاهر أن طريقة صياغتها، جميلة تُغْرِي بقبولها: 1 - نخوةُ وشهامةُ وتَديُّنُ الزهراء، دعاها إلى التبرع بهذا المال لفك الأسرى، بحيث حرروهم جميعاً ولم يبقَ أسير! 2 - أيُّ مالٍ هذا الذي فك جميع أسرى المسلمين، فيما حولهم، والباقي يبني مثل هذه المدينة؟ 3 - محظية : لِمَا تحمل مِن مَيْلٍ قلبي، تثير لها التعاطف واستحسان الاستجابة لرغبتها. والحقيقة أن موضوع فداء الأسرى شيءٌ آخر، والجمع بينهما تزوير وزور، شَوّه كليهما، وذلك أن "إحدى كرائمه أَخرجت مالاً في فداء أَسارى في أيامه، فلم يُوجد ببلاد الأندلس أَسيرٌ يُفْدَى" (سير أعلام النبلاء 8-268). لكن بالمقابل: 1 - هذا البناء لم يكن قصراً، بل مدينة خليفية، تحتوي دواوين الدولة وتوابعها وكثير من العاملين، إنها مدينة أكبر من ذلك. إلى درجة أن الخليفة وجه دعوة إلى المجتمع: كل مَن يريد أن يبني فيها داراً، يُقَدّم له مالاً (المُغْرِب في حُلى المَغْرِب1-179). 2 - لم يَذكر أحدٌ من المؤرخين الثِّقات مثل هذا السبب أو حتى قريباً منه، كابن الفَرَضي (403هـ)، وابن بِشْكُوال(578هـ) وابن حَيَّان: الذي ذكر كثيراً من تفاصيل الموضوع ( نفح1-526 528 563 568). 3 - لكن السبب الحقيقي يكمن في شقين التقيا معاً هاهنا : أ - عُرِفَ عن أُمراء الأندلس حبهم للعمارة وما يتعلق بها، وربما الأمر عام. والخليفة الناصر من أكلفِهم بذلك، شغفأ بالبناء والعُمْران، " كلفاً بعمارة الأرض وإقامة معالمها وإنباط مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها" (فرحة الأنفس303، نفح1-570). فأحب أن ينشئ هذه المدينة المتكاملة عاصمة ملحقة، اقتضتها دوافع التقدم والتوسع والرقي، الحضاري والاجتماعي والسياسي . ب - نظراً لهذا التوسع وقدوم الوفود والسفراء، ومن انتقل إليها من مدن الأندلس الأخرى، غدت العاصمة القرطبية تضيق طرقها ومرافقها، سيما عند قدوم السفراء والوُرَّاد إليها من الآفاق. أصبح السفراء والناس، يلقون عَنَتاً في الانتقال والاستقبال المتكرر، عند كثرتهم وتتابعهم، خلال سيرهم ووصولهم لقصر الخلافة، قرب المسجد الجامع، وما يحف ذلك من حفاوة الناس والمستقبلين، جنوداً ومسؤولين. كل ذلك حفز الهمة وأذكى الرغبة لإنشاء هذا الصرح المعماري العجيب. ابتدأ الخليفة الناصر بناء مدينة الزهراء في 1-1-325 هـ. كان المشرف على بنائها كبير المهندسين: مَسْلَمة بن عبدالله، شَمال غربي قرطبة، على بعد نحو ثمانية كم. تقع عند أقدام جبل العروس "الجبل المُنيف المسمى بالعَرُوس، المَغروس بالكروم والزيتون وسائر الأشجار وأنواع الأزهار" (فرحة الأَنْفُس، 296)، هذا أجود اختيار لها، المعروف بجبال قرطبة: فهي متموجة متدرجة متدحرجة. وفي الترميمات التي تجري منذ عقود، ما زالت مستمرة حتى اليوم، في مدينة الزهراء الخليفية، استعادة لبعض رونقها ومواقعها وأبهتها، منها بقايا قاعة استقبال السفراء "دار الملك" الفخم المعمار، قبل اللقاء بالخليفة في مجلسه المسمى ب "المجلس المؤنس". حديث مدينة الزهراء غني جداً بالتفاصيل (نفح1-523 528 563 596). المظلمة الثانية: جرت أحداث أيام خلافة الناصر، استنتج منها عِدَّة دارسين غربيين، أنه لم يكن متسامحاً مع غير المسلمين في الأندلس، لا سيما النصارى. وكان من أدلتهم على ذلك: أنه خلال المراسلات التي جرت بينه وبين "أوتو الأول"، شتم الناصرُ النصرانيةَ ونبيها، (عليه السلام). لكن ذلك لا يعدو أبداً إلاّ أن يكون اختلاقاً محضاً. فإنه لم يُعْهَد أن أياً من المسلمين فعل ذلك أبداً. كيف والمسلم يحترم كل الأنبياء ( عليهم السلام) ويبجلهم ويؤمن بهم؟ والمسلمون جميعاً وفي الأندلس بالذات، لاسيما أُمراؤهم، والخليفة الناصر من روادهم كانوا في غاية السماحة، ولم يُؤْثَر عنهم غير السماحة. ثم: ألم تكن عدة دويلات في الشمال الإسباني نصرانية؟ لم يذكرأحدٌ أن جرى بينهم شيء من ذلك في أي وقت؟ بل جرى استخدام العديد منهم في مواقع ومناصب عالية، إلى حد أن سفير الناصر إلى "أوتو" كان راهباً نصرانياً. عاش غير المسلمين في المجتمع الأندلسي عيشة وفي الأندلس بالذات لم تتهيأ لهم في أي مجتمع آخر، حتى في مجتمع ينتمون إليه : ديناً ولغة ووطناً. كان التزاوج بين المسلمين الأندلسيين بالذات، من النصرانيات مألوفاً. وإن العديد من أُمرائهم تزوجوا منهن، أسلمن قبل ذلك أو فيما بعد، وذُكِرَ بعضهن بحسن إسلامهن. بل أشارت مصادر منها لاتينية معروفة إلى أن جدة الناصر (أُم أبيه: محمد)، أصلها نصرانية، اسمها وَنَقا، تعرف في المصادرالأندلسية باسم "دُرٌّ"، من نافار(البَشْكنس= الباسك)، حيث تغدو، الملكة الوصية على عرش مملكة نافار عمة الناصر من زواج سابق. |
المظلومون في تاريخنا عباس بن فرناس(1) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الثانية عشرة أبو القاسم: عباس بن فِرْناس بن وَرْداس (274هـ = 887م)، وفِرْناس، تعني: (الشجاع والرئيس والأسد). أندلسي من البربر (سكان الشمال الإفريقي)، من كُورة (محافظة) تاكُرُنّا، ومدينتها (مركزها): رُنْدَة، جَنوبي الأندلس. وُلِدَ في قرطبة أو انتقل إليها، وعاش فيها. نشأ في الرَّبَض (الحي) الغربي منها، ربما في حي الرُّصافة الشهير الذي فيه قصر الإمارة (المقتبس)، (2-2-227 235) والذي منه كان طيرانه الثاني والأخير. نشأ بقرطبة، ونَبُلَ في جميع العلوم القديمة والمُحْدَثة، أَحْكَم لسان العرب وحذق صنعة الشعر الحسن، وفاق في علم الفلسفة والنجوم والهيئة، فصار صاحب نيرَنْجات (حِيَلٌ كالسحر، وليست منه) وألطافٌ وأسحار، تُحْمَل عنه في ذلك أنباءٌ وأخبار."(المقتبس، 1-2-242 و239). الجو العلمي والدراسي : كان التعليم في الأندلس متاحاً للجميع، لا يُحْرَم منه أحدٌ، نساءً ورجالاً، وفي سن مبكرة، علماً بأنه لم تكن هناك مدارس رسمية، هذا لا يأتي وَحْدَه، لكنه ثمرة لبناء المجتمع المسلم، على الإسلام عقيدة وشريعة. يتنافسون في طلبه لا يفتأون أو يَمَلون، جعلها العرفُ مفتوحة أبوابها، وللعلم بأنواعه، وأهلُه وأدواتُه متوافرة. وكم آوت الأندلسُ من العلماء، من كل أنحاء العالم الإسلامي، بل تستدعيهم وتُكرمهم وتحسن استقبالهم، وقد يستقبلهم الأمير بنفسه، من أمثال أبي علي القالي اللغوي، 356هـ (نفح الطيب3-70- 75)، ومحمد بن موسى الرازي المؤرخ، 273هـ (نفح3-111)، وزرياب المغني230هـ (نفح،3-133122) وكان أقل الكرم المال، يغدقونه عليهم. يعقدون لهم الدروس ويفسحون المجالس، يقترحون عليهم الموضوعات، يحثونهم على التأليف فيها. فخير الغنائم هو العلم، وأنفق الأسواق أسواقه. والأمراء أنفسهم كانوا من العلماء والأدباء والشعراء، يجيدون فنونه، كفنون الحرب. يحمون العلماء، مما قد ينالهم ويعكر عليهم صفو أجوائهم، أو مما قد يقترفه أحدٌ، أذيةً لهم، أو من التحريض أو التشويش عليهم، أو رميهم بتقولٍ أو اتهام أو تَحَرّش. كل ذلك جرى في وقت جِدُّ مبكر. دراسته وتعليمه المتنوع: الذي يحيا في هذا الجو لا بد أن تكون له من الدوافع الذاتية المتنامية، تجعله يُسْرِع لارتياد مواقع المعرفة، أبوابُ التنافس فيها مفتوحة، تظهر الطاقات وتنمو المؤهلات، وتتسع المدارك. كل بما آتاه الله سبحانه وتعالى، من الفهم والإدراك والذكاء، الذي لم يَحْرِم منه أحداً ابتداءً. ثم يتولى هذا المجتمع النهوض به، في علوم تُقَدّم للإنسان نفعاً، وتمتنع عن أذاه. وأساس التعليم للجميع هو التعليم الشرعي، ثم يكون التخصص، بما تقود إليه الميول المتنوعة، والفروق الفردية، والنوعية الذاتية، والأبواب ليست مفتوحة فحسب، بل تشجع وتنادي الجميع، والاستجابة متوفرة كلها، محفوفة بالبناء الشرعي، مما يجعل التعلق بها قائماً لا ينام ولا يتخلف أو يُسام. في هذا الجو تعلم وفهم وتقدم عباس بن فِرْناس. وكغيره سار في سُلَّم التعليم المعهود، درب يسلكه الجميع رجالاً ونساءً، منذ نعومة الأظفار. درس القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه وعلوم اللغة والأدب والشعر، ثم واصل دراساته الأخرى بحضور حلقات العلم ومجالس العلماء، سيما في الجامعة القرطبية العتيدة الرشيدة، مسجد قرطبة الجامع، حلقاتُه خلايا نحلٍ، لا تفتر مجالسُها، في كافة التخصصات الشرعية والبحتة والاجتماعية. كان ابن فرناس كذلك يتواصل مع أهل الصناعات الدقيقة وأهل الآلات الموسيقية والألحان والعلوم المتنوعة. كما درس ما يتعلق بالأحجار والأعشاب والنباتات. وصل إلى مراتب عالية مرموقة، غدا نجماً لامعاً في المجتمع الأندلسي، في وفرة من حقول المعرفة، حيث كانت مبتكراته. حاز قصب السبق بين أهله وخاصته وميادينه. كان متقدماً متصدراً فيها، غدا أعجوبة الزمان شامخ البنيان مشاراً إليه بالبنان. حتى لقد وصفه أكبر مؤرخ أندلسي بأجمل النعوت. حَفِظ هذا المؤرخ الثقة الثبت المتقدم، جُلَّ إن لم يكن كل أخبار ابن فرناس، منه نقل الآخرون. وقد ظهر من كتابه أخيراً الجزء (السفر) الثاني (بقسميه) الذي كنا نبغ الجزءُ الذي يحتوي الكثير من الجديد مع القديم المعروف، نقلاً واعتماداً عليه، توثيقاً من أخبار عباس بن فرناس. ذلك هو ابن حيان القرطبي (469هـ =1076م) وكتابه "المُقْتَبِس في أخبار بلد الأندلس" ذو الأسفار (الأجزاء) العشرة (المفقود أكثرها). ظهر القسم الثاني من السفر الثاني أولاً، وبعده قريباً ظهر القسم الأول. كان الجميع يتمنى ظهوره، والحمد لله. ومما جاء في وصف ابن فرناس شاعراً، أنه: "فَحْلُهم الخِنْديذ" (الخنديذ من الشعراء: الشاعر المَُجيد، الوافر المجد، المُنَقِّح)، و"الحكيم الشاعر"، و"كبير الجماعة" (المقتبس,2-2-227, 283, 338). كذلك: "وفي عصر الأمير الحكم نَجَمَ (ظهر) عباسُ بن فرناس، حكيمُ الأندلس، الزائدُ على جماعة علمائهم، بكثرة الأدوات والفنون". (المقتبس1-2-238 كذلك: نفح الطيب3-374). |
المظلومون في تاريخنا عباس بن فِرْناس.. معارفه وميادين ابتكاراته (2) د. عبدالرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الثالثة عشرة تنوعت الابتكارات وتجاوزت التوقعات. منها: قضية الطيران التي جرى الاقتصار عليها، مع شديد الأسف. لقد كان له باع وإبداع واختراع، في عديد من المبتدعات، تكفي واحدة منها لتجعله عالماً فذاً. كان في كل منها كالمتخصص فيها وَحْدَها، وحتى لو كان الأمرُ كذلك، لَوُضِع في صف المُبْدِعين الكبار الذين يُشارُ إليهم، أعلاماً في التاريخ الحضاري والإنساني. فكيف وقد ظهر في نحو اثني عشر ميداناً! ولا أستبْعِد أن يكون ترك مؤلفاتٍ أو كتابات، فُقِدت أو أُحْرِقت أو نُهِبت، في النكبة الأندلسية الكبرى، بعد السقوط، أو لعلها موجودة في مكان ما، أو مأخوذة. عَرَفَ ابنُ فرناس معارفَ كثيرة وعلوماً متنوعة ومبتكراتٍ زائدة، وأصبح من رواده المعتمدين وبز أقرانه المعروفين "كان عالماً مُفَنِّناً فيلسوفاً حاذقاً وشاعراً مُفْلِقاً (مُعْجِباً حاذقاً) ومنجماً مطبوعاً موفقاً، صحيح الخاطر، ثاقب الذهن، جيد الفكر، حسن الاختراع، كثير الإبداع". لقد "أبدع طول أمده إبداعات لطيفة واختراعات عجيبة، في غير ما صناعة من جد وهزل، وكان مع ذلك مُجيداً للشعر حسنَ التصرف في طريقه، كثيرَ المحاسن، جم الفوائد، ذا خصال رائقة، وأخبار سارة". كما كان "صاحب نِيرَنْجات" (أُخَذٌ: حيل كالسحر، وليست)، كثير الإبداع والاختراع والتوليد والاستنباط واسع الحِيَل (ربما: الميكانيك) حتى إنه نُسب إليه السحرُ وعملُ الكيمياء" (المقتبس،1-2-238-243)، مما أثار بعضَهم عليه، حَسَداً أو جهلاً أو استغراباً. الميادين التي ارتقاها وفاز فيها بالتقدم والتعين: الطب: حتى غدا طبيبَ الأمراء، وأُسَرٍ قرطبية عدة. الفيزياء: (الطبيعة) والرياضيات: متداخلة مع العديد من العلوم التي اشتغل بها. الأدب: لا سيما الشعر: حيث كان يقوله في أغراض عدة، لاسيما: الوصف والمديح والهجاء.. كان يرتجله بانسياب وسهولة وحضور (نفح،3-133)، فكان من شعراء الأمراء، ابتداءً من الأمير الحكم وابنه الأمير عبدالرحمن الأوسط وابن الأوسط: الأمير محمد، وربما بداية إمارة ابنه المنذر (انظر: المقتبس، 1-2-241-242 المُغْرِب في حُلى المَغْرِب، 1-333). الفلك: القبة السماوية: "صنع عباس ابن فرناس في بيته هيئة السماء، التي رَكَّبها على منهاج الحكمة، ومَثّلَ فيها أفلاكها، وأقام فيها آلات تُخيِّل إلى الناظر فيها أنها نجومٌ وغيومٌ وبروقٌ ورعودٌ، فأراها كثيراً من عيون الناس،مفتخراً عليهم، بحكمة شاع ذكرها في الناس وحديثهم عنها"(المقتبس،1-2-240). الصناعة: "هو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة ودبرها بالحكمة"(المقتبس،1-2-238). العَروض والموسيقى : كان أول من فك في الأندلس كتاب العَروض للخليل، وأول من فك فيه الموسيقى، وكشف غوامض الأشياء. وأول من فك العَروض ميزان الشعر وفهمها، وله فيه كتاب حَسَن بَلغ في تجويده الغاية. ذات الحَلَق: وهي آلة تُمَثِّل حركة الكواكب، تستعمل لرصد هذه الكواكب السيارة. تتكون من عدة حلقات متداخلة، في وسطها كرة. لقد عمل ابن فرناس هذه الآلة المخترعة العجيب، وقدمها للأمير عبدالرحمن الثاني (الأوسط) "وعمل عباس أيضاً من قبلُ (قبل المِنْقانَة) ذاتَ الحَلَق، للأمير عبدالرحمن بن الحكم، ورفعها إليه بها. (المقتبس،1-2-242. كذلك:2-2-283). (الحَلَق: جمع حَلْقة. الجُون: مفردها: الجَوْن، وهو الضوء). رِجام المجانيق (المقتبس،2-2-357356): آلة حربية صنعها ابن فرناس، ربما هي نوع من الدبابات، يُهاجَم بها العدو. ربما ترمي عليه أذيً لا يمكنه رده، ولا يُمكنه نَيل مَن فيها مِن المُهاجمين، استعملها الأمير محمد، في قمع بعض الثائرين في قلعة الحَنَش، قرب مدينة مارِدة (شمال غرب قرطبة)، سنة 254هـ (868م)، وربما في غيرها". قلم الحبر: وهي آلة أسطوانية تُغَذّى بالحبر، أشبه بالقلم الحالي. النافورات الجميلة: كان ابن فرناس يقوم بإبداع أعمال ليُزَيّن بها الدور والحدائق والقصور، لا سيما للأُمراء، مهندساً مدنياً معمارياً. ولقد "كان عباس بن فرناس الحكيم الشاعر لا يزال تَفْرُهُ (تحذق وتتقن) قريحته الحِكْمِيةُ، يخترع الطُّرَف الملوكية ويُوَلّد الطرف المعجبة، ذوات الصور الجميلة والحركات البديعة بتلونها وإفراغها المياه منها في البِرَك وغيرها، ويستعين في إقامة أشخاصها ومعالجة هندستها بأصبَغ عريف النجارين في القصر يعلمه عملَها... بصنعتها، فإذا تمت ونظر إليها الأمير محمد أُعْجِب بها وسر... عباس مخترعها، فأثابه على ذلك بما.." (المقتبس2-2-283، 284). المنقانة (المنجانة = الميقاتة): وهي نوع من الساعات: "وهو الذي عَمِلَ بالأندلس المِنْقانة لمعرفة الأوقات، ورفعها إلى الأمير محمد حفيد الأمير الحكم، ونقش فيها أبياتاً من قوله، شعراً(جعل الكلام لها): ألا إنني للدينِ خيرُ أداةِ إذا غابَ عنكم وقتُ كُلِّ صلاةِ لم تُرَ شمسٌ بالنهارِ ولم تَبِنْ كواكبُ ليلٍ حالكِ الظلماتِ بِيُمْنِ أمير المسلمين مُحمدٍ تَجَلّتْ عن الأوقاتِ كُلُّ صَلاةِ (المقتبس،2-2-282-289). |
المظلومون في تاريخنا عباس بن فِرْناس طار بلا مَطار .. حقيقة قصة طيرانه (3) د. عبد الرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الرابعة عشرة ونأتي إلى قصة طيرانه، أول محاولة طيران عملية ناجحة في التاريخ الحضاري والإنساني، وجرت بعده بنحو قرن وربع لأبي نصر إسماعيل بن حَمّاد الجوهري (393هـ=1003م)، في مدينة نيسابور. ولم تكن مدروسة على ما يبدو، وإنما كانت كيفما اتفق، فكان فيها حتفه في الحال (سير أعلام النبلاء،17-8 82 تاريخ الأدب العربي،3-617615 الأعلام،1-313)، كما ذُكِرَت محاولة أخرى جرت في مدينة القسطنطينية سنة 1100م. لابد أن عباس بن فرناس قد أفاد من جُلّ تلك العلوم التي أتقنها، وأنفق جُهْداً ووقتاً في حيازتها، حتى تهيأت له إمكانية القيام بهذه التجربة، ليطير في الجو مسافة، وبارتفاع غير قليل، ولقد جرت وتجري دراسات لمعرفة كيف تم له ذلك. فلقد تكلف العالم البريطاني روجر بيكون (نحو 1220 1292م) درا سة ما قام به ابن فرناس، للتعرف على كيفية وفهم محاولته، وهو الذي جاء بعد ابن فرناس بأربعة قرون، وكانت العلوم الإسلامية مصدره الوحيد، إلى جانب ما يذكر أنه زار قرطبة ودرس فيها.. كتب في علوم عدة، منها البصريات، التي اعتمد فيها على ابن الهيثم، بشكل كلي. يُذكر أن بيكون ترجم في قرطبة العديد من المخطوطات العربية، منها تلك التي دُوِّنت فيها قضية تجربة الطيران الفرناسية، للتعرف على الأدوات والآلات التي اعتمدها ابن فرناس، في تلك المحاولة الناجحة الفذة، وربما من بينها دراسات ومؤلفات دَوَّن فيها ابن فرناس كل ذلك، وقد تكون فيها مخططات ذلك كله، التي يبدو أنها قادت إلى اختراع ما عُرِفَ بالأورنيثوبتر جهاز بدون محرك وبجناحين، مما يشبه الطائرة. ربما ليكون قريباً، أو على نسقه، ذلك الذي عمله العالم الإيطالي الشهير ليوناردو دافينشي البيزي (من مدينة بيزا) (1452-1519 A. D.) والذي جاء بعد ابن فرناس بما يزيد على ستة قرون. وكان قد ذهب إلى البلاد العربية، وتعلم لغتها، وترجم بعض كتبها. ولا أستبْعِدُ أبداً أنه نقل من مخطوطاتها، التي قد يكون جلب معه بعضها، ثم أودعها مكتبة الفاتيكان الغنية بالمخطوطات العربية، وذلك أنه لم يظهر في أوروبا، قبل القرن الخامس عشر للميلاد، عالِم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب. وعلى كتب العرب وحدَها عَوَّل روجر بيكن وليونارد البيزي وأرنود الفيلنوفي وريمون لول وسان توما وألبرت الكبير والأذفونش العاشر القَشْتالي، إلخ (حضارة العرب،568). حتى لقد أحصى أحد الدارسين الأوربيين (لكلير) الكتب التي ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرنين 1312م، في بعض العلوم، فكانت نحو 300 كتاب (حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي،524). إذن ربما استمرت المحاولات ومتابعة التجارب وبذل المجهودات المتوالية، التي قادت إلى نجاح المهندس الفرنسي كليمن آدر (1925 A.D.) كي يجهز آلة لأول مرة، ثم يطير بها، سنة 1890م. ثم ليقود ذلك فيما بعد الأخوين الأمريكيين: رايت، ويلبور (1912م) وأورفيل (1948م) إلى أن يصنعا أول طائرة ذات محرك، وطارا بها سنة 1903م، ليبدأ بعدها العصر الجديد للطيران. وطيرانه حَدَثَ مرتين على ما يقال الأولى يوم كان كهلاً، حيث قفز من أعلى مئذنة مسجد قرطبة الجامع القديمة، التي كان ارتفاعها عشرات الأمتار، والتي هدمها سنة 340هـ (951م) الخليفةُ الأندلسي عبدُ الرحمن (الثالث) الناصرُ لدين الله، ليقيم مئذنة جديدة بديلاً عنها، وهي الباقية إلى اليوم، والتي يبلغ ارتفاعها نحو خمسة وأربعين متراً. ثم بعد ذلك بعدة سنوات، قام بالمحاولة الثانية والأخيرة، وذُكِرَ أنه تأذى بمقدار. قيل إن ذلك، بسبب ما فاته، إذ لم يعمل لنفسه كذيل الطائر، الذي به ينزل على الأرض، مقاومةً لجاذبية الأرض، ومعلوم أنه لم يحدث البتة أن مؤرخاً أنكر تلك المحاولة، في أي وقت. وبناءً على واقعية المحاولة اهتم الغرب بهذه الريادة، وعمل علماؤه على اقتفائها والبناء عليها، "وذَكَرَ بعضُ المشيخة، أنه احتال (رتب حاله) في تطيير جثمانه، فكسا نفسَه الريشَ على سَرَق الحرير، ومَدّ لنفسه جناحين على وزن تقدير قَدَّره، فتهيأ ( فَتَمّ) له أن استطار في الجو، فطار من ناحية الرُّصافةَ، واستقلَّ في الهواء، فحلَّق فيه حتى وقع من مكان مطاره على مسافة بعيدة، وساء على ذلك موقعه لما تأذَّى في عَجْبِ ذَنَبه، إذ لم يُحْسِن الاحتيال في وقوعه، ولم يُقَدّر أن الطائر إنما يقع على زِمِكّاه، فَلَهَا عن ذلك. وقد كان أفزعَ مَنْ عاين مطارَه مِنْ أهل الصحراء، فكثر تحدُّثُهم عَمَّا عايَنوا منه ولا يَعلمون شأنَه. (المقتبس،1-2-240239، نفح الطيب،3-374). (العَجْب: أصل الذيل، زِمِكّاه: مثنى زِمِكّ: منبت ذيل الطائر، لَهَا: غَفَل، يَطُمّ: يعلو، العنقاء: طائر متوهَم، قشعم: النسر المسن). لا يبدو أن ابنَ فِرناس فاته اقتفاء التزود بذنب كالطائر، لكن الذي يبدو إن صح تعليلهم أن المادة التي كانت تمسك بالمؤخرة ذابت أو تبددت أو سقطت. لا بُدَّ من وقفةٍ هنا لمحاولة معرفة تاريخ حدوث طيرانه هذا، ولو بالتقريب، وهو ما لم يُذْكَر عنه شيءٌ أبداً، لقد سخر الشاعر مؤمن بن سعيد من مسألة طيران ابن فرناس في أبيات شعرية، وهذا الشاعر توفى في (الثلاثاء4 رجب 267هـ)، بعد سجن نحو سنتين، لمضيه في الهجاء. هذا يعني أن مؤمن بن سعيد كان طليقاً نحو سنة 265هـ (المُغْرِب في حُلى المَغْرِب،1-133132). فيكون هذا الشاعر قد وجه سخريته من ابن فرناس قبل هذا التاريخ، وأُقَدّرها نحو سنة 260هـ (873 874م)، وإذا كانت لابن فرناس محاولة واحدة فيكون هذا بعد الثانية، وإلاّ فهي الوحيدة، وهذا تاريخها التقريبي. المصدر : مجلة المجتمع. |
المظلومون في تاريخنا عباس بن فِرْناس.. ظلمه ومحاكمته (4) د. عبد الرحمن علي الحجي أستاذ التاريخ الإسلامي والأندلسي الحلقة الخامسة عشرة اعتبر البعضُ أن موضوع ابن فرناس والطيران، لا يعدو أن يكون خيالاً، وقصته منقولة مُتَوارَثة، بينما هو ثابت تاريخياً، حدوثه فعلاً وبديهياً، حيث دَوَّنه أوثق المؤرخين، ورآه شهودُ عِيان، تتابعت أحاديثهم وأخبارهم، أمراء وعلماء وأهل الفضاء أو الخضراء، وتم أمام جمهرة كبيرة من أهل قرطبة، ولم ينكر حدوثه أحدٌ أو يقلل من حقيقته مؤلفٌ أو يثير كاتب شُبْهةً حوله. وكان يومها قد غدا ابنُ فِرناس معروفاً جداً، في عدة ميادين، لا سيما في قرطبة الأمجاد، وربما رأى هذا المشهدَ مَنْ كان خارج المدينة أو في ضواحيها، حيث ارتفع أو بقي مرتفعاً، ولدقائق غير قليلة، وكان هو الذي دعا الناس وأعلنه لهم ليُشاهِدوُه، ولا شك أن مثل هذا الحدث في ذلك الزمان يهرع الناس متسابقين لرؤيته، فيكون الحضور جاداً وعاماً. غمطه والجهل بمكانته: ابنُ فرناس عالم موسوعي فريد، متعدد المواهب، تغذى في ذلك الجو الكريم، فأنتج في الكثير، وإن تفاوت إنتاجه، حتى لكأن الشاعر عناه وأمثاله بقوله في (نفح الطيب3-376): وكان من العلوم بحيثُ ** يُقْضى له في كُلِّ فَنٍّ بالجميعِ تفوق ابنُ فِرناسٍ، ليس فقط في عصره، بل في عصور تالية، فهو في المقدمة من أمثاله، الذين ماجت بهم الحياة الإسلامية وحضارتها الإنسانية الرائدة التي تعرضت للظلم أيضاً. والمجتمع الإسلامي يقدم على الدوام العلماء في كافة الميادين، وتجد نماذج فذة في كل القرون (نفح الطيب3-375-377). حضارته ودود ولود، أخذت أهلها بالجد والتقدم والبذل للعلم، تلقياً وبذلاً، حتى غدا ذلك لدى أهلها خُلقاً، ملحوظاً محموداً مشهوداًً. ماذا يُنْتَظر في مثل هذا الجو الذي يَعْتَبِر المنجزات البناءة، نوعاً من العبادة، يُثِيب اللهُ تعالى القائمَ بها؟! لدينا قوائم طويلة من الأعلام البارعة، نساءً ورجالاً، في كل حقول المعرفة، كثير منها ضاع، أحياناً حتى أسماؤهم أو نتاجهم، وبقي بعض أخبارهم، مثلما حدث مع ابن فرناس. اتهامه ومحاكمته: أثار ما كان يقوم به ابنُ فرناس من تجارب ومبتكرات نفراً قد أشكل فهمهم من الجَهَلة أو الحسَّاد أو المتعجلين، فشكوه إلى القاضي القرطبي: سليمان بن الأَسْوَد الغافقي "المشهور بعدله وورعه واستقامته، وعُمِّر مائة عام" (تاريخ علماء الأندلس ص 155، 156، تاريخ قضاة الأندلس ص 56 59).. وجرى استدعاؤه، وكانت جلسة تاريخية، استُعْرِضت فيها قرائن الاتهام والدفاع والشهود، وكان بين الشهود الأمير محمد نفسه، حضر وجلس كأحد الشهود. كان الأمير محمد "أيمنَ الخلفاء بالأندلس مُلكاً، وأسراهم نفساً، وأكرمهم تثبتاً وأناةً، وكان السعي عنده ساقطاً، يجمع إلى هذه الخلال الشريفة البلاغةَ والأدبَ" (الحُلَّة السِّيَراء1-119). وقد عُقِدت على عباس بن فرناس وثيقة بالزندقة (!!!)، وشَهِدَ بذلك عليه من العامة جماعةٌ، عند سليمان بن الأَسْوَد، فمنهم مَنْ قال: سَمِعْتُه يقول: مَفاعيلٌ مَفاعيلٌ، ومنهم مَنْ قال: رأيتُ الدمَ يفور من قناةِ داره ليلة يَنير، إلى أُحْموقاتٍ من شهودٍ جهلاء، كشفها القاضي فلم يجد طائلاً، وشاور الفقهاء فيما قُيِّد منها، فلم يَجِدْ إلى عقابه سبيلاً، فأفلتَ عباس بجُرَيْعة ذَقنِه".( المقتبس1-2-243). (أفلت بجريعة ذقنه: نجا من التلف). وكان مما قاله ابنُ فرناس للذين اتهموه بأعماله الكيماوية وتراكيب موادها، وجدة أشكالها وأحوالها، لاستخراج أمور متكونة من ذلك، ببديهية مُسلمة: "لو أتيت بالطحين ووضعته بالماء وعجنته، ليكون منه العجين، ووضعته على النار في التنور ليصبح خبزاً، وهو مختلف الحال، أيكون ذلك مُحَرّماً أم لنفع الناس؟ فقالوا: لنفع الناس. فقال: هذا ما أصنعه لأستخرج ما ينفع الناس". إنه يمزج الشيءَ بالشيء ويستعين بالنار على ما مزِجَه، فيأتي مما أمزج شيءٌ فيه منفعة للمسلمين.. ثم شرح لهم أوامر الله تعالى ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، في أن يعمل كل إنسان مسلم ما يتفق مع مواهبه، وأن من ملك علماً ولم ينفع به المسلمين فقد أَثِمَ، لأن العمل بمقدار الكفاءات من فروض الكفاية.. فحكم القاضي والفقهاء في الجلسة ببراءة عباس بن فرناس وأثنوا عليه، وحثوه على أن يستزيد من عمله وتجاربه، وشهد له الأمير بذلك. فخرج بريئاً، بل وشجعه القاضي للمضي في هذا السبيل، وعَمَلِ كُلِّ ما ينفع الأُمة. ومما تجدر الإشادة به في العام الماضي، ما قام به مركز التراث الإسلامي في مانشستر من عمل جليل مُبْهِج: حيث أقام مَعْرضاً، باسم: "ألف وواحد اختراع، في العلوم البحتة"، كان منها ما يخص ابن فرناس وقصة طيرانه: (www. 1001inventions.com). المصدر : مجلة المجتمع. |
كتب الدكتور الحجي بأسماء مؤلفاته ، - تحقيق ودراسة لسفر من كتاب " المقتبس في أخبار بلاد الأندلس " لأبي حيان القرطبي. يتحدث عن خمس سنوات من أيام الحكم الثاني. بيروت 1965م. - تحقيق ودراسة للنص الجغرافي المتعلق بالأندلس وأوروبا من كتاب " المسالك والممالك" للجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري. ظهر هذا النص تحت عنوان " جغرافية الأندلس وأوروبا". بيروت 1968م. - "أندلسيات". المجموعة الأولى. بيروت 1969 م. والمجموعة الثانية بيروت 1969 ، وتضم بحوثا ًومقالات في التاريخ الأندلسي. - "نظرات في دراسة التاريخ الأندلسي" ، الطبعة الأولى ، بيروت 1969 م. - "الحضارة الإسلامية في الأندلس" ، بيروت 1969 م. - " تاريخ الموسيقى الأندلسية" ، بيروت 1969م. - الدكتوراه عن " العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وأوروبا الغربية حتى نهاية الخلافة". - " التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة" ، رسالة الماجستير. دمشق 1976م. - بحث بالانجليزية يتناول جانباً من شخصية الرحالة الأندلسي ( إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي) ، ونشر كذلك بالإيطالية. - بحث " القضاء ودراسته في الأندلس " ، نشر في العدد الأول 1972 م من مجلة كلية الدراسات الإسلامية ، بغداد. - بحث " الكتب والمكتبات في الأندلس " ، نشر في العدد الرابع 1972 م من مجلة كلية الدراسات الإسلامية ، بغداد. - بحث حول " التراث والحضارة " ، نشر في العدد الخامس 1973 م من مجلة كلية الدراسات الإسلامية ، بغداد. - بحث " العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وبيزنطة حتى نهاية القرن الرابع الهجري ، نشر في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد. - بحث " ابن زيدون السفير الوسيط " نشر في المغرب عام 1975 م. |
مشكوو وو وور اخوي عالطرح
بيض الله وجهك |
القاضي الفاضل
الله لايحرمنا منك كفيت ووفيت ودمت لنا مبدع ويعطيك ألف عافية |
.
. ++ { القاضي الفاضل ... http://www.srabuae.org/up-pic/uploads/763131172b.gif هلا و غلا فيك جهد تشكر عليه تسلم اخوي على الطرح يعطيك الف عافية ارق التحايــأ العطرة http://www.srabuae.org/up-pic/uploads/763131172b.gif ++ { الريم اللعوب ... |
القاضي الفاضل
تسلم ع الطرح والمجهود الله يعطيك الف عافية تقبل خالص ودي واحترامي |
تسلم وربي يعطيك ألف عافيه
|
|
|
جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الخليج - © Kleej.com
( 2007 - 2025 )
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر العضو نفسه ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى